16: ضرورةٌ وأسطورة: ما بين الميم والتاء

وجدتُ في الحياة أمراً ساخراً للغاية، بيد أن الجميع قد نودوا للركض خلف  السعادة،وأنّ الحياة تُعاش بأكملها إن كنت مشرقاً مقبلاً عليها كالمحموم، إلا أنّهم لم يدركوا الفرق بين " العيش " و" التعايش" إلا عندما فقدوا حبيباً لم تدور الدنيا بعده مع عقارب الساعة، ولا عكسها، لم تعد تتحرك الساعة أصلاً.

أنظر لوجوه من حولي، يضحكون ملىء قلوبهم، لكنهم لا يضحكون، ليس كما كانوا صغاراً على الأقل، " أنا عايش " هو خطّ رفيع تخطّه الطفولة ويشوّهه التقدم في العمر، يضيف إليه حرفين لتتغير اللعبة بأكملها: ميم وتاء. " أنا متعايش".

وليس بالضرورة في التعايش نكرانٌ للعيش وراحة البال، لكنّ فيه من المحاولات والبذل ما يجعله عصيّاً على الإنسياب والإنفلات ببساطة من الأيام. وأرتبك كثيراً كلما شاهدتُ فيلما أجنبياً أو قرأت قصة هنا أو هناك من عالم الغرب، تُظهر سرعة تجاوز الآلام والفقد، فأستغرب هل بإمكان الأفراد هناك التجاوز سريعاً، أم أن في العربِ نزعة تميل إلى الكآبة والوقوع ضحايا الذكريات!

ماما مثلاً ليست سوى واحدة من العرب الذين يميلون بكل جوارحهم للذكريات، تتكىء أمي على سيرة من ماتوا وتستحدثها كلما جالوا بخاطرها، يتذكّر أبي الجميع كذلك، ويقول بصوتٍ مخنوق: الله يرحمهم.
وأعلم جيداً، فأنا شاهدة على وجوههم وملامحهم التي تغيرت عبر السنين، ليست بفعل المرض ولا التجاعيد ولا الكلف فحسب، إنها ملامح التعايش، يحاول بابا أن يُخفي شوقه المهيب لأمه وأبيه، أبيه الذي خسره منذ ما يقارب الثلاثين عاماً، وجدتي التي ما عادت هنا منذ خمسة عشر عاماً، كان اسمها زهرة، ذبلت في قلوب الدنيا لكنها أينعت في قلبه للأبد. إنها زهرته التي لا تموت صدقاً. يمكنك أن ترى كل هذا إذا قارنت بين صورتين لنفس الشخص، بابا في السبعينات وبابا الآن!

عمتي التي بهتت ضحكتها بعد موت جدتي، هي التي ما زالت تضحك إلى الآن، لكنّ أمراً ما ذهب ولم يعد.

وماما التي تضع يدها على قلبها كلما سمعت أن جدتي " عندها حساسية في عينها "! إنه الهلع من أنّ تضطر للتعايش ثانيةً وهي التي واجهت سنيناً طويلة لتتعايش مع موت جدّي، لتصدقّ أنه بالفعل لم يعد يجلس هناك على التكيّة في صدر بيتهم العامر بالخيرات، وأن الخيرات - لسبب غريب- ذهبت بذهابه.

كنت أشاهد فيلمي المفضلّ ليلة البارحة، وقالت فيه ماري لابنها بعد أن علمت بمرض زوجها: " أنا لستُ مهتمة تماماً بحياةٍ بلا والدك ". مات وبكت، كفكفت دموعها واستمرت الحياة رغماً عن أنف الجميع.
 هي أمورٌ نتعايش بعدها لأن لا سبيل آخر سوى التعايش.

تخيّل معي عزيزي القارىء، أنّ جميعنا -إلا مثلاً نسبة بسيطةً غالبيتهم أطفال- لا نعيش الحياة، بل نتعايش معها، كأنها ضرّتنا.
ولست أعلم هل العيب في كينونتنا تجاه الحياة، أم العيبُ في الحياة؟ هل التعايش ضعف أم شجاعة؟ هل النسيان احتمالية أم حتمية؟ هل هي أيدولوجية العرب نحو الكآبة أم أن ما نراه من عالم الغرب إدّعاءات كاذبة، وفي نهاية الأمر يتلوّع الجميع على حدّ سواء ويتعايشون لأن الفِرار قرارٌ أنانيّ وأكثر إيلاماً؟!

فكّر معي، لأن التعايش أمرٌ بغيض، لكنه ضرورة.
وأن العيش إحساس بديع، لكنّه -على الغالب- أسطورة.
فماذا نحنُ بفاعلين!؟


-


16/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا