18: " إنتَ ورزقك ": أشهى فطور في حياتي



في الثامن والعشرين من فبراير لهذا العام، كنت في طريقي من مطار برج العرب لبيتنا الصغير الدافىء في دمياط الجديدة.
ولكل من زار هذا المطار يعرف تماماً معنى أن تكون هناك في فبراير: سقيع.
ولحسن الحظّ -لأنني أحب الشتاء حباً عملياً ولامنطقياً وأراه من أكثر الفصول دفئاً- كان الطريق عبارة عن زعابيب هوائية وطلقات من البرد المباغت لجسدٍ اعتاد على درجة حرارة الخليج.

لا بأس في كل هذا،كان في الأمر متعة جميلة، لكن الحكاية الممتعة لم تبدأ بعد.

لأنني وصلتُ مبكراَ، وكان خالي العزيز في انتظاري، لم يفطر كلانا، دعونا نتفق أن الطعام المقدم في الطائرة دائماً ما يشبه أكل المطاعم الأوروبية، كمياتُه استكشافية، لكن طعمه حتماً لا يشبهه كثيراً، لأنه أكثر ردائة. ولأكون أكثر دقّة، كان في القلب لهفة للفول والطعمية والجبنة البلدي، رغم أنني لم أتوقف عن تناولهم يوماً، لكنّه الشوق يا أعزائي " وآه من الشوق ". لذا توقفنا على جانب الطريق، هناك امرأة يحبّ خالي أن يأكل من يدها كلمّا كان في طريقه عائداً من برج العرب.

أما أنا، فكان لي رأي آخر، كانت تسبقها سيدة مع زوجها، أو هكذا اعتقدت، يخبز العيش البلدي ساخناً وطازجاً " وبسمسم"، وعلى رغم بساطة العشّة وتهالكها ومجاهدتها الصادقة في الصمود أمام الزعابيب الباردة، أخبرني صوتٌ ما أنني سأستمتع هنا.

توقف خالو بقرب العشّة، وسألهم: " عندكو مكان نفطر؟ "

نظرا لبعضهما البعض، وقالت المرأة:
" آه هزبطلكو الحتّة جوا، اتفضلوا ".

وعندما دخلنا، لم يكن هناك " حتّة " لكنّها خلقتها من الفراغ. صدقاً. كأنّ الدفء اجتمع وتكاتف وقرر ألّا يخذلها.
" اتفضّلوا " و تفضّلنا..

أنا لا أريد المبالغة، لكنني لم أذق في حياتي فطوراً كهذا، في حياتي كلها!
يمكنني أن أتغزّل بالعيش البلدي أولاً، ويمكنني أن أتغزّل بالبيض المقلي بأقل إمكانياتِ ممكنة لكنه كان البيض الأجمل على الإطلاق، ويمكنني أن أقول الشعر في طعم الجبنة، القشطة والعسل الأسود، البطاطس المسلوقة التي لا أعلم صدقاً كيف كانت تذوب كغزل البنات في فمي، كوب الشاي الذي خيّم على أحزاني جميعها، خيمةً كادت أن تفصلني لوهلةٍ عن كل ما هو معلّق في حياتي.

كان الجوّ سيئاً فعلاً، سيئاً للدرجة التي تجعلك تتساؤل كيف تقف هذه المرأة بكلّ هذا الأمل ويجلس هذا الرجل أمام الفرن يخبز باستمرارية كأنه في مطعم مكتظّ بالزبائن، حيث لم يكن هناك غيرنا، ولم يكن هناك مطعم من الأساس.

شكرتها:
" الأكل ده أحلى اكل أكلته في حياتي بجد، شكراً. "
- " بألف هنا يا أستاذة "

شعرت في داخلي أنه لا يجب أن أمرّ بتلك المرأة هكذا، فدار بيننا الحديث حتى أخبرتني:
" إحنا مكنّاش ناويين ننزل النهاردة أصلاً، معانا واحدة بتساعدني بس معرفتش تيجي من الجو الوحش، بس نزلنا أنا والحاج - الذي نسيت اسمه بالطبع لأنني سيئة في تذكر الأسماء - وقلنا يمكن، ربّك بيرزق، أصل جوزي تعبان في البيت ولو منزلتش إنتِ فاهمة بقى، بس الحمدلله نورتونا ". وأعلم أن هذه القصة تًحكى كثيراً، مصر هي رواية أبطالها نساء، لكنّك وإن كتبت قصصاً متشابهة كل مرة، فإن كل امرأة من هؤلاء، هي قصة فريدة بذاتها. تماماً كتلك المرأة " اللي إيديها تتلف في حرير ".

كانت لهجتها جميلةً لكنني لا أتذكر منها إلا سطراً واحداً قالته مودعةً إيّانا:
" هنستنّوكِ إنت وإصحابك تيجو تنورونا تاني "

وأنا أأمل أن أكون على معادٍ جديدٍ معك يا أيتها السيّدة البديعة.

-
18/365
  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا