5: أمورٌ مثيرة للجدل: أنا والقاهرة بمفردنا


أحبّ طريق السفر الطويل، تحديداً إذا كنت فيه بمفردي.

بالعودة بضع سنين للوراء، كان يمكن أن أغرق في ضحك استنكاريّ فقط لمجرد تفكيري في احتمالية أن أسافر من دمياط إلى القاهرة بمفردي، رغم أنني أسافر سنويّاً من القاهرة إلى الشارقة والعكس ولا تعتريني خلالهم الرهبّة مطلقاً، باستثناء لحظات الغثيان المعتادة كلّما هممت بتجهيز الحقيبة وكلّما أوشكت الطائرة على الهبوط.
وعلى الرغم من أنّ أحلامي في السفر لأي بلد من بلاد الله قد تحققت، وسافرت إلى تونس وأنا لا أفقه اللكنة ولا أعرف فيها صديقاً واحداً حتى، إلا أنني لم أشعر للحظة بهذا التوتر الذي اعتراني عندما استقليت الباص المتجّه إلى القاهرة من دمياط للمرة الأولى.

" القاهرة المزروعة إعلانات بدل الشجر " كما يقول خلف جابر، كانت البعبع الذي لاطالما أجّلت لقاءه. أشعر أنني ضئيلة جداً في مواجهتها، وأيقن أنها السبيل لكل الأحلام، لكنها لم تكن مكاني الآمن ولا وجهتي السعيدة، يوماً. كفراشةٍ في مواجهة رياح أمشير " اللي يخلي العجوزة جلدة والصبية قردة " كنت أنا في مواجهة القاهرة.

سمعت كثيراً عن " وسط البلد " وظلّت الرغبة لزيارتها تحوم في خاطري، وفي الشهرين الأخيرين، زرت القاهرة سبع مرّات، في المرّات الأول أغشتني الزحمة وتتالي أصوات " الكلاكسات " حتى كدت أشعر أنها سيمفونية القاهرة التي تُعزف منذ لحظات ولادتها الأولى، أما عن عوادم السيارات فأخشى أنها خيّمت في جيوبي الأنفية المسكينة. الشمس كأنها في موعد – غير – غراميّ معك،  ومن فرط الحميمية تكاد تتصوّرها تجلس مقابلتك تماماً رغم أنها تبعد ملايين السنين الضوئية عنك. الجميع يعبرون الشارع في اتجاهات متعاكسة ومختلفة، والسيارات كذلك، وهنا تأتي خبرتك في " إزاي تعدي الشارع من غير ما تموت "، هذه أمور ليس من السهل إتقانها. ثم التحرير، البقعة التي تشردق فؤادي ليصل إليها يوماً، أراه اليوم، وأشعر أن جاثوم الحزن ينقضّ على صدري. 

في زياراتي الأخيرة، بدأت القاهرة تتسلل لفؤادي حبواً كأنها ابنة الشهور الأولى، وهي التي تقبع هنا منذ أزمان بعيدة.
ومع كل مرةٍ أزورها فيها، أحبّها في اللاوعي، أكثر، وأكرهها في الوعي، أكثر. تأسرني " وسط البلد ". كل الشواهد والكتب والتاريخ تطمئنك، أنتَ تتعلق بمدينةٍ حملت بمفردها قصصاً وأهوالاً لم تشهدها دولٌ بأكملها، " إنتَ مش مجنون ولا حاجة! ".

" معاد 12 دمياط "، ينادي موظف شرق الدلتا ليقطع لحظة من التأملات التي لم أتورط عميقاً بها، أنا عائدة لبيتي الآن، معي صوت أم كلثوم ووائل الفشني وياسين التهامي، وطريق سفر طويل، أحبّه.


 الصورة التقطتها من سينما زاوية - وسط البلد

-
5/365


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا