24: وجهٌ آخر للعزلة
ارتبط النضج عندي بالعزلة، وكلما شاهدتُ الوجوه تلمع وسمعت الضحكات تعلو، جزءٌ ما في أعماقي يهمس لي: " لسا عيال وقلبهم أخضر".
وتحتمل هذه السريرة وجهان، إما أن أغبطهم على قلوبهم التي لم تينع ما زالت، أو أحزن لهم لأنّ لهم من الطفولة ما لم يصدمهم بعد بمشاهدة الواقع. و لأن " المدرك لا يعود" ففي " المعيْلة " ما لا يشبه الإدراك تماماً، وطالما لم يدقّ الإدراك مسامير تخييمه في كيانك، فبإمكانك العودة من حيث بدأت والإستمتاع والضحك حتى يختفي صوتك مع اختفاء الليل.
مثلاً أنا، عندما كنت أصغر ببضع سنين، تقريباً في الثامنة عشر أو التاسعة عشر، كنت أستاء تماماً كلما رأيتُ أحداً يتناول العشاء بمفرده، أو يمشي وحيداً لا رفيق له سوى سمّاعات أذنه، أو لا يهتم بمن دخل معه المعمل هذا أو الكورس ذاك، أو يذاكر وحيداً في مكتبة الكلية، كنت أستاءُ كثيراً وأشعر أن لا أحد لهم ولا ونيس، وبتّ أراقبهم كلما قابلتهم في الشارع أو في الأماكن العامة، وأقول في نفسي : يا حرام. ليس من باب الشفقة المزعجة وإنما من باب إيماني التام بأنها معاناة حقيقية لا أكثر.
أتذكر أنني تساءلت مرة في تغريدة: " إزاي بتعرفوا تخرجوا لوحدكو وتقضوا وقت لطيف، ده الجنة من غير الناس ما تنداس "، كلما تذكرتُ هذا السؤال وجدتُ في نفسي بذرة مراهقة ساذجة ولله الحمد بدأت تنمو وتكبر مع الأيام، أصبحتْ صباراً. تلقيتُ ردوداً من أصدقاء كلها صبّت في جملة مشتركة: جرّبي أولاً، ستجدي طريق متعة الفردية. فأعرضت تماماً، أن لن أستطع التجربة حتّى، أنا أعلم نفسي - أو هكذا ظننت أو هكذا حسبتها حتى تغيرتْ-.
أقول الآن وأنا ابنة الرابعة والعشرون ربيعاً أنني لم أجد في أحد متعة وأُنساً كالذي وجدته مع نفسي، أحفّز بعض العوامل الخارجية لاستكمال المشهد المثالي، مثلاً كأن أضع بعض موسيقى اليوجا الهادئة، وأشعل أضوائي الصفراء لتملأ الغرفة، وفنجانٌ من القهوة المانو أو كوبٌ زجاجيّ من الشاي بالنعناع الذي تقف أعواده مزهرةً ومتناغمة أو تطفو أوراقه كأنها تطفو فوق مياه أغسطس الدافئة متشمّسة وهانئة. أحياناً أضيف بعض الشوكولاتة للقائمة لرفع هرمون السيروتونين - هرمون السعادة- قليلاً، أستند برأسي الملغّمة بالأفكار القابلة للإنفجار في أي ثانية لمخدتي الناعمة علّها تعاملها معاملة حذرة ورقيقة، ثم أضع جراباً ملّوناً ليدفّىء قدماي وأمسك كتابي أو أشاهد فيلما أحبّه لأنّه كما تعرفون، قصّتي مع الأفلام تشبه فيلم حمادة هلال الذي بات يستيقظ فيه يومياً ليعيد يومه بحذافيره كأنه لم يعشه مسبقاً، أشاهد الأفلام التي أحبها كأنها مرتي الأولى.
أصبحتُ قادرة على تناول العشاء دون الشعور بأنّ المقعد أمامي فارغٌ، أو أن أتمشى ممسكةً بيد سماعاتي كأنها شخصي المفضل، أو أنزل من البيت لا أعلم تحديداً وجهتي غير أنني لا أريد الجلوس بين جدران البيت ولا أريد أن أطلب من أحد أن يرافقني، أستطيع الآن أن أسافر مسافاتٍ طويلة بصحبة نفسي غير مهتمة بالتوقيت ولا حداثة المكان عنّي ولا خوفي من الغرباء حتّى، بالعكس، بدأت أدرك أنها فرصتي لحبك قصص جديدة وفتح نوافذ للتعرف على العالم الذي لاطالما هربت منه كحبّهان عصيّ على الخروج من شوربة ساخنة. حبّهانٌ أدركَ أن في الهروب مصيره وقرر أن يخرج من الشوربة حتى وإن وجد نفسه مفعوصاً تحت ضرس الحياة، لأنّه سيهدي الحياة حينها طعماً مرّاً لاذعاً لا تنساه.
إنّه النضج الذي يجعلك مستعداً لكل أنواع الخسارات رغم أن أصغر أنواعها قد يهشّمك، لكنك آمنتَ يقيناً أنْ مهما بلغت المحبّة والصداقة والعلاقات جميعها: " محدّش هيبقالك غير نفسك". انغمس في العالم وأحبّ العالم ودع العالم يعلّمك دروسه السعيدة والحزينة على حد سواء، لكن لا تدعه أن ينسيك أن نفسك هي ملاذك الوحيد، حين تتوقف الوجوه عن اللمعان والضحكات عن العلوّ، ستكون هي ملاذك الوحيد.
أو هكذا أظنّ.
-
24/365
💞
ردحذف<3 <3
حذف