42: حقيبةٌ مغلقة وأرقٌ مفتوح على مصراعيه

إنّ لحظات السفر الأخيرة تلك باتت تؤرقني، أو للدقة لا طالما آرقتني. وكأنّ مشهد الحقائب المصطفة بجانب بعضها البعض بات يحجب عني الرؤية، أو يغلق قفصاً على رئتي، ورغم أنني أحبّ السفر لبلاد لا أعرفها إلا أن السفر الذي أعرفه هو رحلةٌ ما بين مصر والإمارات وهو السفر الذي يأخذني دون إدراك للحظات الوداع.

في كل مرة كنت أخشى أن يكون أحدهم وداعٌ أخير، وقد عايشتُ الكثير من الوداعات الأخيرة. وكواحدة من المصريّين يمكنني أن أؤكد لكم أن دراما ما قبل السفر هي شيء يسير في دمائنا كنهر النيل، حالة من البكاء والنواح كأنّك في جنازة، أحضان تغوص في عمق الروح وتكرارٌ متكرر لجملة "توصلوا بالسلامة". هذا واقع.

توقف هذا الواقع عندما أصبحتُ أسافر بمفردي، طوال فترة دراستي للصيدلة، سافرتُ ما يفوق العشرين مرة ما بين ذهابٍ وإياب، وما لا يعرفه أحد أنني كنتُ أقيم حالة من الطوارىء لأمنع دموعي من نزول الشارع بينما كنتُ أبكي لوحدي في المطار، وأفهم نظراتِ الناس، يعرفون أنني مجرد طالبةٍ أخرى تكمل دراستها بعيداً عن العائلة. لكن في تجربة السفر وحيداً علاجٌ هائلٌ للنفس، واستثمار حقيقي في استكشاف من أنتَ وما الذي تفعله في هذه الدنيا، وهل يمكن للحياة أنْ تصبح جميلة بعد أن تغدو "بطولك" في مواجهتها!

ثمّ تحدثُ المفاجئة، بعد أن يعصف بك الخوف من الوحدة والسفر والإقلاعات المتتالية، يتحول لهوايتك المفضّلة التي لا تستسيغ بعدها السفر مع أعداد كبيرة من الناس. أجد الآن في السفر بمفردي فرصة لكي أراقب التفاصيل الصغيرة، وأتابع في الناس نظراتهم وعيونهم ومحادثاتهم الأخيرة.

لكنّ كل هذا الحبّ ليس بإمكانه أن يقتلع شجرة الأرق من تربتها للمرة الأخيرة، هذه مشاعرٌ وُلدت معي وعاشت بقدر ما عِشت، وليس في الأمرِ سوداويةٌ أو خوفٌ من المرتفعات أو المسافات أو أي فوبيا، لكنّها كما توصف في الإنجليزية anxiety، وهي مرة من المرات القليلة التي أجدُ في الإنجليزية إنصافٌ لمعنى ما.

لكل من عشق السفر وكره أرقه، هذه التدوينة مواساة، فأنا هنا، خلف شاشة الموبايل، وأمامي حقائب مفتوحة وأكوام متكدسة من الملابس والحقائب والكراكيب وليس عندي طاقة لإنهاء كل تلك العشوائية والنوم بهدوء.

على كل الأحوال، سأحاول أن أشارككم تدويني غداً من المطار، قد تُنشر قبل معادها، وقد لا تُنشر، فاعذروني ♥️

-
42/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا