43: ما بين الأرض والسماء

في قاعة الإنتظار


ما زلتُ أكتشفُ أماكن جديدة وعاداتٍ جديدة ومشاهد جديدة كلما سار بي الطريق نحو مطار برج العرب في الأسكندرية، لا طالما فضّلته عن مطار القاهرة إما لصغر حجمه أو لنسمة الهواء العليلة التي تلفح وجهي عندما تقف على عتبة بوابته

الإنتظارُ في كلّ المحافل يمتصّ الحياة من شرايينك، إلا انتظار الطائرة، يشعل في القلب الحماس. وإن تجاوزنا قسوة القلق الذي يكتفّ أطرافك كلما قارب ميعاد السفر، فإنّ في الطيران وسيلة الهروب التي أفضّلها. أنا أهربُ دونما أي هرب، هكذا أجد في الأمر متعته الخفيّة.

وإنْ كنتَ من محبّي التدقيق في وجوه الناس طوال الوقت، فإن المطار فرصتك العظيمة لكي تشاهد كل أنواع الغرباء، أخّان يلعبان بعنفوان، أمٌّ تحلم بلحظة نعيم في بلكونة بيتها بعيداً عن بكاء الأطفال وأرق المسؤولية التي كما يبدو تتحملها بمفردها، رجلُ أعمال ينعطف لردهة " خاص: رجال أعمال" يُمسك زجاجة مياة إيڤيان وفي اليد الأخرى حقيبةٌ مأنّقةٌ لحاسوبه المحمول، يخترقُ هذا الهدوء صوتُ آلة تنضيف السيراميك وناداءات الضباط وعُمال النظافة. صوتُ طفل يبكي بحشرجةٍ يستنجدُ بالجميع بينما الجميع يريدُ أن يستبدل معه الأدوار، سنبكي نحنُ وتعالَ اجلس أنتَ هنا.

تراودني أفكارٌ كثيرة عندما ترتفع الطائرة عن مستوى رؤية الأرض، وتغدو الغيوم أرضها، أفكر حينها في مدى اقترابنا للسماء وطول ابتعادنا عن الأرض، أحياناً تأتيني أفكارٌ سوداويةٌ وقلقة، لكنّها لا تستمرُ حتى أرى البحر، فتكبُر وتبتلعني، أهرب بالنوم أو بالقراءة.

في السماءِ مشاهدٌ تمسح عنك القلق والخوف كأنّك طفلها المُهدهد في سريرك الهزّاز، مشهد الغيوم مثلاً تحملك على النوم بسلام، مشهد الشروق يعيد لك إيمانك بالحياة، مشهد الغروب يعيد لك إيمانك بالربّ، ومشهد البيوت المنمنمة والسيارات المُفسفسة يحيي فيك استصغار الهموم وزحمة المواصلات والبكاء في الحمّام. 

من أين ستُكتب التدوينة القادمة إذاً؟ 

-

43/365

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا