53: أكثر من صديقة وأقلّ من حبيبة: حكاية
في السماء لونٌ أزرقٌ زاهي، وفي الغيوم تتابعاتٌ خفيفة وحركة متدفّقةٌ كأنها دخانٌ سجائرٌ ينفثه مدخّن متمزّجٌ في الصباح، أما الأرض، فمدّ أخضرٌ واسع، وشجرة ٌ لها أزهارٌ أرجوانيةٌ وزهريةٌ تظلل المحبّين السكارى في أحضانها. في الجوّ رائحةٌ كأنّ باباً لمقهى قريبٍ قد فتح على مصراعيه، وراحت الدنيا تتنفسّ من النسائم المنبعثة منه، في كفّيها " ورد " تربّت على فرائها الناعم لتسمع خريرها المُطمئن. أما عن قلبها، فنارٌ مستعرةٌ.
***
خرجت اليوم من حصّة الكيمياء في الجامعة تركضُ نحو أقرب أرضٍ خلاء، لم تكن الكيمياء مزعجة، لكنّ المُعيد رمى سهماً أحيى في الفؤاد جرحاً قديماً حيث قال ببرود:
" ما يحدث في علم الكيمياء بين الذرات فيما هو أصغر من قدرة الإنسان على الرؤية يحدث بين الأشخاص على الواقع وفي عالمٍ مرأيّ تماماً، يُقال باللغة الدارجة أنّ كيميا ما نشأت بين قلبين وكذا بين جسدين، هل بالضرورة أن تنجح المعادلة الكيميائية دائماً؟ لا. لكنّ العالِم لا يتعب، سيحاول حتى تنجح المعادلة يوماً ما."
رمى قنبلة موقوتة في الفؤاد وذهب، سلمَ لسانه.
سيلٌ غامرٌ اجتاح الكينونة، سيلٌ حَمل كل الكيمياء التي فشلت معادلاتها، وكانت هي عالِمتها. ففي كلّ مرةٍ ظنّت أنها حازت على نوبل، انتهى بها الأمر تلمّ أذايل خساراتها وترحل خالية الوفاض من أيّما انتصار، ذرّةً وحيدة.
في أرضٍ خلاء، في بلادٍ ليس من مصر بقريب سمعتْ صوت مها أحمد - في الباشا تلميذ - وهي تقول بصوتٍ محشرجٍ: " أنا! أنا بلا كيميا ". فأرادت أن تُلقي بهذا الكتاب في النهر المتمهّل أمامها، لكنّها تذكرت أنّ اختباراتٍ ستدقّ الأبواب قريباً فهدأت. لم تكن يوماً مجنونة للحدّ الذي يجعلها قادرةً على التخلي عن كتبها على أيّة حال، إنّه نوع من الكيمياء بينها وبين الكتب، أو هكذا تحبّ أن تعتقد.
مرّت بقربها قطة صغيرة راحت تتمسح في طرف بنطالها الأزرق الواسع، كانت تدور حول وردةٍ حمراء سقطت من الشجرة الكبيرة التي تًظلل رأس عشاقٍ اختاروا أن يشاركوها ذات الخلاء، نظرت لتلك القطّة وشعرت أنّ ذراتهما تلاقتا، في عالم من الكيمياء الصرف، راحت ذراتهما تتحادثان وتقضيان الوقت، أسمتها " ورد " وأخذت منها تلك الوردة الحمراء وثبّتتها خلف أذنها فباتت كأنها تنبع من بستانٍ في شعرها. أسندت يدها للعشب وراحت تخبر ورد:
أتعلمين ما هي مشكلتي؟ أنني دائماً اكثر من صديقة وأقلّ من حبيبة.
وهُيّيء إليها من خيالٍ أو بالفعل حدث، أن ورد قد أهدتها اهتماماً بالفعل ونظرتْ لها في عمق عينيها لتستمع لبقية الحكاية، وهي لم تكن تملك من الحكاية بقيّةً على أيّة حال، فقالت بإحباط:
هذه هي المشكلة فحسب. انتهت الحكاية
أأضعُ لك وردة كخاصتي؟
فنظرتْ بعيداً باتجاه النهر وواصلت الخرير.
يتبع .. -
53/365
تعليقات
إرسال تعليق