37: رؤوسٌ أينعتْ بالصمت الطويل..

الصمتُ مقصلة، أما نحن -فبكل رضا- وضعنا رؤوسنا على حافّتها وانتظرنا النهاية. 

كان الصمت ثقيل، ثقيلٌ لأنّه اكتظّ بالكلام غير المعلن، ثقيلٌ لأنّه لم يتخلَّ عنّا مرة واحدة ورافقنا حتى نهاية الطريق، ثقيلٌ لأنّه ثقيل. استوجب منّا تمام التخلّي، استوجب منّا أن نتركه يسير في خطىً لا تشبه خطانا، استوجب منّا أن نزيح ثقلاً خادعاً من فوق صدورنا، لكننا استسلمنا.
هل تعلم كمْ هو محبطٌ أن يتحوّل حلّك المريح الأمثل لشوكةٍ تغرز سنونها في فؤادك!

في بعض الموسيقى التي سمعتها ليلة البارحة -رغم عزف العود ولعب البيانو- صمتٌ أعرفه، لم أنشأ عليه لكنني بتّ أتقنه، أستمع لزوابع الكلمات المتلاطمة، وأتذوقّه في كل ما حولي. أقول أن الموسيقى صوت من لا صوت لهم، وكذا صوت من اختار أنّ الكلام قليلٌ والفؤاد كبير واللسان -على رغم فصاحته- لن يلفظ فؤاده إنمّا يلفظ حروفه.

يقول أحمد بخيت:
" وحين أحبُّ سيّدةً أحوّلها لموسيقى "، شاعرٌ ترك لغةً أخرى تنوب عنه في التعبير!


عندما تنطق حروفك الأولى وأنتَ تحبو نحو الدنيا يحومك حماسٌ شديد، فتقول " بابّا " و " دادّا " من وعيك الإدراكيّ للأصوات ولا وعيك المعنيّ بالمعنى، وتتكلم كثيراً، كأن الكلام سينتهي. ثم ينتهي منك فعلاً، ويأتي عليك هذا الزمن الذي يُنقّح فيه ما يخرج من جوفك، وتستدرك نفسك في حديثك ما استطعت، ويقلّ مجموع كلماتك اليوميّة حتى يقارب على النفاذ. أنتَ لم تتوقّف عن الحديث بل استبدلت لغتَك بصمتٍ طويل وعالٍ.

نشأتْ بيني وبين أناس قليلون هذه اللغة، ونمَت بيني وبين الله كذلك، فرحت أجلس بعد التشهد الأخير والسلام رافعةً يدي مغمضةً عيني لا أنبسُ بكلمة، هيهاتَ ألا يسمع الله قرع طبول بداية هذه الحرب التي في فؤادي! وأصبحتُ أنقلُ الكلمات المتعثرة والإعترافات الضخمة والحنين المحزن في تنهيدةٍ لا يفهمها أحد. 

حلّ سلميّ لكنّه بركان خامل.

لذا، ما الراحةُ في الصمتِ سوى استدراكُ العواقب؟ نحنُ اخترنا أن نستدرك العواقب وسلّمنا رؤوسنا للمقصلة. 

-

37/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا