68: ستُّ جنيهاتٍ في تغريدة

قرأتُ اليوم تغريدة، أعادتني بضع سنين للوراء، كان مفادها:
مش إدعاء للمثاليه ولا غيره

بس اقسم بالله قلبي بيوجعنى مع كل واحد بيدخل الصيدلية ويتفاجئ بالسعر فى الاخر ومبيكونش معاه فلوس العلاج."

كنتُ متدربّة في صيدلية من أكبر الصيدليات الموجودة في المحافظة، كان يجب عليّ أن أنهي عدد ساعاتٍ معينّة في التدريب، فبدونها لا يمكنني النجاح في سنتي الرابعة والخامسة في الجامعة، ولابدّ لهذا التدريب أن يكون في أشهر الصيف اللزجة المزدحمة، وقررتُ، حبّاً في التجربة لا في صيدلة، أن أقف خلف المنضدة الخشبية، وبدل أن أمدّ يدي بالروشتة الطبية، سأمد إحداهما بالأدوية والثانية بتعليمات الإستخدام. بدت التجربة مشوّقة في خيالي.

الواقع لا يُغازلك ولا يبالغ في ما يقوله لك عندما يخبرك الجملة التي تتهرب منها دائماً:" إنتَ لسا ما شوفتش حاجة!"، لأنك كلما خضت في بحر الدنيا المنقسم على جنبيك كموسى، كلما أدركت هول الذي يلفّك من كل الإتجاهات، وإنّك إن لم تكن موسى في نهاية المطاف فستغرق بلا رحمة كأنّك فرعون. ثمة بحر كبير وغامض حواليك، كلما نظرت كلما اكتشفت مفاجئة أخرى.

في الفترة الأولى في تدريبي، كنت استكشف المهنة كرضيعة تغادر منزلها للمرة الأولى لترى العالم، أنظر حولي بترقّب وحياديّة، أتعرّف على هذا وذاك، أكوّن شعوراً نحو هذا وذاك، أحاول أن أفكّ شيفرات خطوط الأطبّاء وعنجهيّتهم كذلك، ظللتُ أراقبُ فترةً لا بأس بها، كل هذا ولم أفقد حماستي بعد.

لكنني فقدتها سريعاً، عندما دخل عليّ مريض يبدو من هيئته ولكنته أنه من الصعيد، سألني عن قطرة للعينين، فأجبت بالإيجاب، قال: "بكام يا أبلة؟" قلت: "بستّة جنيه يا حاج". نظر لي وقال: "مفيش أرخص؟" وأيّاً كانت التفاصيل بعد هذا السؤال، لكنّه ذهب إلى بيته وفي جيبه تلك القطرة.

" ستّ جنيهات" كانت على وشك أن تجعل الرجل يخرج بعينيه المغلقتين تلكما دون أن يملك علاجاً لهما! وتكوّن المشهد من لحم ودمّ أمامي اليوم وأنا أقرأ التغريدة. لم تكن تلك حالة وحيدة أو فريدة، ويعلم الناس جميعهم حقيقة تلك الأمور. لكننا بالفعل كنّا نواجه عدداً كبيراً بشكل يوميّ، عدد المرضى الذين يطرقون باب الصيدلية خاليين الوفاض فقط لأنّهم لا يملكون حقّ العلاج، لا يملكون ستّ جنيهات حقّ الدواء، لأنّهم يرددون دائماً " العمر واحد "، ويجدون في الستّ جنيهات تلك إستحقاقاً للطعام أكثر من العلاج.

ثمّة غصّة تنشأ في الحلق كلما مررتُ بلحظة كتلك، وأشعرُ أن الصيدلة والطبّ تسعى خلف ذووي القلوب الحديدية، أما أنا، فقلبي أخضر لا يحتمل.

-

68/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا