69: التغيير هو الثابت الوحيد..
هؤلاء الذين يأتون ويذهبون، لا خفّة بنا على أكتافهم ليحملونا ولا ثقل لنا في قلوبهم ليذكرونا، إما أنّهم احبّونا أكثر من اللازم فهلكت أجسامهم أو لم يحبّونا كفاية لننجو معهم هولوكوستر الحياة المجنون. ولا عيب في الحالتين. على كل الأحوال التغيير هو الثابت الوحيد في هذه الحياة، وما دونه سذاجة.
كانت جدّتي تُجلسني بقربها بعد أن تفرد السماء ملايتها السوداء، ويعمّ السلام الحارّة، ويسكن جنون الأطفال وصوتهم أسرّتهم الدافئة، وتبقى حبيبتي "زهرة" متكّئة على مخدّتها القطنية، متمددة على حصيرتها الخضراء، والتي تتعشّقها الصفرة وخطوط طوليّة سوداء، تلبس عباءة خفيفة قطنية، كادت أن تختفي نقشتها من كثرة تغطيسها في الماء الفاتر في غسّالتها اليدوية. وتبدأ حكاياتها، في حدود التاسعةِ مثلاً أو قبلها بقليل وننتهي قبل أن تتجاوز الحادية عشر. وكلما قاربت عقارب الساعة على الحادية عشر، كانت تغفو وتستيقظ، تغفو وتستسقظ، متعبةٌ لكنّها تريد أن تكمل الحكاية. ولا أتذكّر فيما حكينا، لكننا كنا نتشاركُ آراءنا سويّة، كنّا نتحدث عن حريم الحارّة، وعن أولاد العم وأولاد العمّة، جدي وأخواته، كنا نتحدثُ ونتحدثُ حتى تنام. أغادر شقّتها، أردّ خلفي الباب الأخضر الخلفّي، وأصعد على السلّم بخفّة حتى أصل إلى شقتنا.
في آخر مرةٍ رأيتها، كانت تودّعنا. عندما توقفّ الميكروباص الأحمر ذاته أمام باب المنزل، وراحت تبكي، كان تحضننا وتقول: " مين عارف اللقا هيبقى إمتى تاني!". كأنّها كانت تعرف أن اللقا القادم سيكون بعيداً. ولم أرها بعدها ثانية.
لما كنّا نفترشُ الأرض، كنتُ أظنّ أن مشهداً كهذا لن يتغيّر، لم أكن بعد مُدركة لفكرة الموت، على الرغم من أنني فقدت جدّي قبلها ببضع سنوات، لكنني فعلاً كنت أصغر من أن أستوعب المفهوم بمجمله، ولما كبرتُ، بات استيعابه أصعب من الإحتمال. ماذا حدث ليتغيّر كلّ هذا؟ حدثت الحياة، لا انا استوعبت الموت ولا الحياة توقفت عن مضيّها.
يبحث المحبّون عن صكٍّ بالأبدية، لكنّ صكّاً بالأبديّة لم يوجد يوماً. ولن يوجد يوماً. رغم أنني بحثتُ عنه في أحضان جدتي، ومع سيجارة جدي التي لم تكن تنطفئ، مع حماره الذي أحبّه واعتاده كأنّه قدمه، بحثتُ عنه في الحبّ، بحثت عنه في الشعرة البيضاء التي نبتت في فروة رأس أبي لأول مرة، بحثتُ عنه في محفظتي، في شكل ملابسي، بحثتُ عنه في اختياراتي، لم أجده يوماً. هكذا، يتغيّر كل شيء حولك سوى الثابت الوحيد، التغيير.
-
69/365
كانت جدّتي تُجلسني بقربها بعد أن تفرد السماء ملايتها السوداء، ويعمّ السلام الحارّة، ويسكن جنون الأطفال وصوتهم أسرّتهم الدافئة، وتبقى حبيبتي "زهرة" متكّئة على مخدّتها القطنية، متمددة على حصيرتها الخضراء، والتي تتعشّقها الصفرة وخطوط طوليّة سوداء، تلبس عباءة خفيفة قطنية، كادت أن تختفي نقشتها من كثرة تغطيسها في الماء الفاتر في غسّالتها اليدوية. وتبدأ حكاياتها، في حدود التاسعةِ مثلاً أو قبلها بقليل وننتهي قبل أن تتجاوز الحادية عشر. وكلما قاربت عقارب الساعة على الحادية عشر، كانت تغفو وتستيقظ، تغفو وتستسقظ، متعبةٌ لكنّها تريد أن تكمل الحكاية. ولا أتذكّر فيما حكينا، لكننا كنا نتشاركُ آراءنا سويّة، كنّا نتحدث عن حريم الحارّة، وعن أولاد العم وأولاد العمّة، جدي وأخواته، كنا نتحدثُ ونتحدثُ حتى تنام. أغادر شقّتها، أردّ خلفي الباب الأخضر الخلفّي، وأصعد على السلّم بخفّة حتى أصل إلى شقتنا.
في آخر مرةٍ رأيتها، كانت تودّعنا. عندما توقفّ الميكروباص الأحمر ذاته أمام باب المنزل، وراحت تبكي، كان تحضننا وتقول: " مين عارف اللقا هيبقى إمتى تاني!". كأنّها كانت تعرف أن اللقا القادم سيكون بعيداً. ولم أرها بعدها ثانية.
لما كنّا نفترشُ الأرض، كنتُ أظنّ أن مشهداً كهذا لن يتغيّر، لم أكن بعد مُدركة لفكرة الموت، على الرغم من أنني فقدت جدّي قبلها ببضع سنوات، لكنني فعلاً كنت أصغر من أن أستوعب المفهوم بمجمله، ولما كبرتُ، بات استيعابه أصعب من الإحتمال. ماذا حدث ليتغيّر كلّ هذا؟ حدثت الحياة، لا انا استوعبت الموت ولا الحياة توقفت عن مضيّها.
يبحث المحبّون عن صكٍّ بالأبدية، لكنّ صكّاً بالأبديّة لم يوجد يوماً. ولن يوجد يوماً. رغم أنني بحثتُ عنه في أحضان جدتي، ومع سيجارة جدي التي لم تكن تنطفئ، مع حماره الذي أحبّه واعتاده كأنّه قدمه، بحثتُ عنه في الحبّ، بحثت عنه في الشعرة البيضاء التي نبتت في فروة رأس أبي لأول مرة، بحثتُ عنه في محفظتي، في شكل ملابسي، بحثتُ عنه في اختياراتي، لم أجده يوماً. هكذا، يتغيّر كل شيء حولك سوى الثابت الوحيد، التغيير.
-
69/365
تعليقات
إرسال تعليق