82: كليشيه: "لماذا نكتب؟"


في إحدى صفحات الفيسبوك التي يتشارك فيها المهتمّون والمتيّمون بالكتابة كتاباتهم، اتفّق مؤسس الصفحة على موضوع ليشارك فيه من يودّ المشاركة، " لماذا نكتب؟!" وحدد ميعاداً أخيراً لاستلام كتاباتهم حتى يتسنّى له قراءتها واختيار الأفضل من بينها حتى يتشاركها مع جمهور جريدة " الطريق".

فكرتُ: لما نكتب؟ فلم أجد جواباً، لأن التفكير بنون الجماعة أحياناً مُرهق ويتركنا نتفكّر بتخبّط في اختلافات النفس البشرية، وميولها واهتداءاتها وضياعاتها المتكررة، فأزحت نون الجماعة وفكرت: لماذا أكتب؟ وشعرتُ حينها أنني أعرف نفسي، أو أعرف عن نفسي ما يؤهلني لترجمة إجابة هذا السؤال من مجرد زخم مجنون ومعقّد لحروفٍ متراصّة يمسك بعضها بعضاً.

أتذكّر عندما كنت ابنة السنواتِ الأولى من المراهقة، كنت أعتقد أن الكتابة تخليدٌ أزلي، وفي الحبّ نحبّ أن نلجأ للخلود فنكتب لمن نحب، ونرسل هديةً لصديق فنرفقها ببطاقة معايدة لنهادي من نحبّ، أو نعلّق قصاصة ورقية على ثلاجة المطبخ لنعتذر لمن نحبّ، أو نثبّت صورة في مرآة غرفة النوم وعلى ظهرها جملة لمن نحبّ، هكذا كنتُ أفكر، أكتبُ لأنني أحبّ.

ثم عايشتُ الهزيمة، والفراق، فكتبتْ، وأتذكّر حينها أنني واجهتْ جملة لأحلام مستغانمي في إحدى روايتها، ولا أتذكر تحديداً أيها، لكنّها عرفتني على وجه آخر للكتابة: هي مقبرة لا تخليد، خطّ النهاية الذي أتخلّى فيه عن أحمالي، إفراجٌ غير مشروط عن المساجين الذين حبستهم في فؤادي إما لفرط أذاهم أو لفرط محبّتي. الكتابة هي لحظتي الأخيرة قبل أن أهيل الطين على جثة من كتبت، لأنساه إلى الأبد، أو إلى أبد ما استطعت. وهكذا رحتُ أفكّر، أكتب لأنني أريد أن أتحرر.

ثمّ مرّ شتاءٌ وصيفٌ وشتاءٌ في صيف، حتّى عرفتُ لماذا أكتب.
أكتبُ لأنني متى أحببتُ ومتى فارقتُ ومتى حزنتُ وانعزلت الناس أجدني أكتب، أكتبُ لأنني أرى أباً يمسك بطفلته كأنها تمثالٌ فنّي ويقبلها كأنّها قطعة حلوى لم يذق حلاوتها سواه، أكتبُ لأنني أخافُ أن تُنسى تفاصيل شارعنا وكيف تبدو غرفتي في الصيف وكيف تتسعّ في الشتاء، أكتبُ لأنني أودّ أن أعيش في بيت أحدهم يوماً كما تعيش رضوى عاشور في غرفتي، وبجانب سريري وداخل حقيبتي، أكتبُ لأنني لا أستطعم القراءة دون أن أتخيّل أين كُتبت هذه السطور وكيف وأين ومع من ولمَ، أكتبُ لأنني أحبّ شكل الغيوم في مدينتي، وأريد أن يحبّها أحدٌ بعدي أو أحد معي، أكتبُ لأنّ الكتابة رغم تدليس التاريخ والأفاعي هي أصدق صورةٍ للتداول، أكتبُ لأنّ الورق عملةٌ أغلى من الدولار واليورو، وأن الحبر السائل له رائحة زكيّة تضاهي رائحة أبي، التي لم تكن يوماً عطراً بل رائحة مميزةٌ لجلده، أكتبُ لأن علم الجيولوجيا يتراكم كما تتراكم الكلمات، والكلمات قديمةٌ كالأرض، أكتبُ لأن الكتابة لغتي حينما أحب ولغتي حينما أفارق ولغتي حينما أسامح ولغتي حينما أهتف. أكتبُ حتى يأتي يومٌ غريب بعيد أو قريب، يقرأُ فيه شخص ما أكتب ويشعر أنه ليس بمفرده، وأنّ ثمّة شخص- ولو في الماضي- يمسك بيده ويربّت على كتفه ويزيح عن وجهه دمعه ويشاركه تناول العشاء ومشاهدة التلفاز.،

أكتبُ لأنني أريد أن أحيا بينما أتنفّس وأريد أحيا بعد أن ينقطع نفسي الأخير. وهكذا بتّ أفكر، أكتب لأنني سأموت وأنا لا أحبّ الموت.

-


82/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا