85: ماذا خلف الباب؟!
أحبّ أن أتخيّل ماذا يحدثُ خلف هذا الباب، وذاك الشباك، وماذا تخفي جدران هذا البيت. وأخشى أن تُسمّى تلك فضوليّة خادشة، لكنّها في حقيقة الأمر تعمّق فيما هو أبعد من الأسفلت والخشب، تعمقٌ لما يمكن أن تحمله نفس الإنسان، وكينونة العائلة، وتعدد أفرادها.
عندما تتحركُ عجلات السيارة أو يطير الميكروباص عابراً بنا أراضٍ خضراء وبيوتاً رمادية، تتوقف عيني لجزء من الثانية على كل باب نمرّ به، ماذا يمكن أن يخبّىء هذا الباب خلفه، ما القصة التي تتكوّن وتتشكل هنا! من يعيش هنا؟ كيف يبدو مطبخهم؟ هل مات لهم أخٌ أم أخت؟ هل لهم مغترب مسافر؟ أو قريبٌ غريب؟ وأفكّر كثيراً، أخلق سيناريوهاتٍ معقّدة وكثيرة وأحياناً أبسّطها إذا ازدادت سرعة المحركات وبدت البيوت شريطاً لا مكعّبات.
مثلاً هذا البيت ذو الطوابق الثلاثة، لونه برتقاليّ زاهٍ، شبابيكه بنّيه، جانبيه ما زالا بالطوب الأحمر، لكنّ واجهته مزّينة بالورود المطبوعة. على حبل الغسيل سيمفونيّة عُزفت، الملابس الصغيرة فالمتوسطة فالكبيرة كالملاءات والجلاليب، في الشرفة قفص أبيض، بداخله عصفوران لم أتحدد ماهيتهما بالطبع، ما وراء الشبابيك الكبيرة، غرفةُ فتاة، تنامُ مشاركة مع أخيها الصغير، عائلتها صغيرة ووالدها يعود في حدود العاشرة، يعمل نجّاراً في شارعٍ قريب، أمّها كثيرة الصراخ وضيّقة الأفق، تؤدي فروضها المنزلية وتفكّر في أن ابنتها البكرية قد جاوزت الثالثة عشر ويجب أن تزور دكتورة نسائية في أقرب وقت.
وبعد قطعتين سكنيتين ونخل طويل، بيتٌ رماديّ، يتدلّى من شرفته زرع أخضر يقاوم الذبول، الشبابيك زيتيّة اللون، أزهى من خضار الزرع، وعلى اليسار شفاط يبدو كأنّه شفاط المطبخ، همم ماذا تطبخ سيّدة المنزل اليوم؟ أشتهي المسقّعة، علّها تطبخها، يُهيىء لي أنني أسمع طشّة الملوخيّة فترتاح جوارحي، كلاهما يطمئنان الروح.
يتكيء وحيدُها في غرفته الصغيرة على مخدّتة القطنّية التي نجّدها عمّ أحمد السيّد منذ ما يقارب الخمسة عشر عاماً، يبحثُ في هاتفه المحمول عن فتياتٍ جميلات، ومجلاتٌ مكدّسة بالصور والأخبار معتقداً أن صور الأثداء والأرجل الناعمة ستسدّ ثغرة في روحه، لكن وحدته كانت أكبر من أن تضمّها فتاةٌ واحدة. وحدته كانت أكبر من قلبه. وثغراتُ الروح لا تملؤها الأجسام بل أرواحٌ مثلها.
ثم على طول الشارع من الجهة المقابلة، سيّدة تطعن الأرض بأداةٍ حادةٍ لم أتبيّنها، تنحني على الأرض بكل تعب وتنفرد بعدها ثم تعاود الحركة لمرّات، وضعتُ اسماً لها،" أحلام "، ذكّرتني بسيدةٍ كانت تسكن حارتنا قديماً كنا نناديها " نينة أحلام " قبل أن يصبح الإسم ذو خلفيّة في الذاكرة الجمعية للناس، فبات يذكّرنا بجملة أخرى " أبغى كنتاكي".
كانت تلبس " أحلام" كما أسميتها طاقيةً تشبه طواقي الصيادين، لها لونٌ أزرقٌ باهت يميل إلى الإخضرار كلون مياه النيل، وكان وجهها، يجمل سُمرةً مُكتسبة، سمرةً مُتعبة، سُمرةً لا تُشبه " التان ". ورغم ما تحمله على أكتافها، شعرتُ أنّها تحمل فوقهم الشمس، والأولاد، وأبو الأولاد، لتعودَ عند الغروب، تحمل كل ذلك وحزنها في صرّة صغيرة حول بطنها، لتنام. على جانب السرير الصرّة وفي قلبها الأحمال.
وتستمر هذه الرحلة، من اللحظة التي أرى فيها جدراناً وشبابيك، حتى يختفي كل ذلك أمام الجدران والشبابيك التي أعرفها جيداً، بيتنا.
عندما تتحركُ عجلات السيارة أو يطير الميكروباص عابراً بنا أراضٍ خضراء وبيوتاً رمادية، تتوقف عيني لجزء من الثانية على كل باب نمرّ به، ماذا يمكن أن يخبّىء هذا الباب خلفه، ما القصة التي تتكوّن وتتشكل هنا! من يعيش هنا؟ كيف يبدو مطبخهم؟ هل مات لهم أخٌ أم أخت؟ هل لهم مغترب مسافر؟ أو قريبٌ غريب؟ وأفكّر كثيراً، أخلق سيناريوهاتٍ معقّدة وكثيرة وأحياناً أبسّطها إذا ازدادت سرعة المحركات وبدت البيوت شريطاً لا مكعّبات.
مثلاً هذا البيت ذو الطوابق الثلاثة، لونه برتقاليّ زاهٍ، شبابيكه بنّيه، جانبيه ما زالا بالطوب الأحمر، لكنّ واجهته مزّينة بالورود المطبوعة. على حبل الغسيل سيمفونيّة عُزفت، الملابس الصغيرة فالمتوسطة فالكبيرة كالملاءات والجلاليب، في الشرفة قفص أبيض، بداخله عصفوران لم أتحدد ماهيتهما بالطبع، ما وراء الشبابيك الكبيرة، غرفةُ فتاة، تنامُ مشاركة مع أخيها الصغير، عائلتها صغيرة ووالدها يعود في حدود العاشرة، يعمل نجّاراً في شارعٍ قريب، أمّها كثيرة الصراخ وضيّقة الأفق، تؤدي فروضها المنزلية وتفكّر في أن ابنتها البكرية قد جاوزت الثالثة عشر ويجب أن تزور دكتورة نسائية في أقرب وقت.
وبعد قطعتين سكنيتين ونخل طويل، بيتٌ رماديّ، يتدلّى من شرفته زرع أخضر يقاوم الذبول، الشبابيك زيتيّة اللون، أزهى من خضار الزرع، وعلى اليسار شفاط يبدو كأنّه شفاط المطبخ، همم ماذا تطبخ سيّدة المنزل اليوم؟ أشتهي المسقّعة، علّها تطبخها، يُهيىء لي أنني أسمع طشّة الملوخيّة فترتاح جوارحي، كلاهما يطمئنان الروح.
يتكيء وحيدُها في غرفته الصغيرة على مخدّتة القطنّية التي نجّدها عمّ أحمد السيّد منذ ما يقارب الخمسة عشر عاماً، يبحثُ في هاتفه المحمول عن فتياتٍ جميلات، ومجلاتٌ مكدّسة بالصور والأخبار معتقداً أن صور الأثداء والأرجل الناعمة ستسدّ ثغرة في روحه، لكن وحدته كانت أكبر من أن تضمّها فتاةٌ واحدة. وحدته كانت أكبر من قلبه. وثغراتُ الروح لا تملؤها الأجسام بل أرواحٌ مثلها.
ثم على طول الشارع من الجهة المقابلة، سيّدة تطعن الأرض بأداةٍ حادةٍ لم أتبيّنها، تنحني على الأرض بكل تعب وتنفرد بعدها ثم تعاود الحركة لمرّات، وضعتُ اسماً لها،" أحلام "، ذكّرتني بسيدةٍ كانت تسكن حارتنا قديماً كنا نناديها " نينة أحلام " قبل أن يصبح الإسم ذو خلفيّة في الذاكرة الجمعية للناس، فبات يذكّرنا بجملة أخرى " أبغى كنتاكي".
كانت تلبس " أحلام" كما أسميتها طاقيةً تشبه طواقي الصيادين، لها لونٌ أزرقٌ باهت يميل إلى الإخضرار كلون مياه النيل، وكان وجهها، يجمل سُمرةً مُكتسبة، سمرةً مُتعبة، سُمرةً لا تُشبه " التان ". ورغم ما تحمله على أكتافها، شعرتُ أنّها تحمل فوقهم الشمس، والأولاد، وأبو الأولاد، لتعودَ عند الغروب، تحمل كل ذلك وحزنها في صرّة صغيرة حول بطنها، لتنام. على جانب السرير الصرّة وفي قلبها الأحمال.
وتستمر هذه الرحلة، من اللحظة التي أرى فيها جدراناً وشبابيك، حتى يختفي كل ذلك أمام الجدران والشبابيك التي أعرفها جيداً، بيتنا.
-
85/365
تعليقات
إرسال تعليق