88: صوتُ الحبّ الأول، للحبّ الأخير: كلثوميات

كيف بدأ كلّ هذا الحبّ؟ بدأ بالحبّ، بأوّل حبّ تحديداً، هذا الحبّ الذي يحفر اسمه بكل عنفوانيةٍ وجنونٍ كأنّه دقّ المسامير. هذا الحبُ الذي لا يُنسى لذاته لكنّه يُنسى لتفاصيله المُراهقة والمُرهقة. في هذه الحقبة الزمنيّة المجنونة من عمرك ستقع -دون أن تُعي- في صوتها، هذه السيّدة الحكيمة الرزينة التي تُمسك منديلها بدفء وتتزيّن دون مبالغة أو تفاخر إلّا بجمال صوتها. هذه السيّدة الفريدة التي أؤمن إيماناً تامّاً أنّها وحيدة هذا الزمان التي أمسكت صولجان إذابة القلوب بكل حرص، ومارست السحر على كينونتنا دون أن نُدرك، ولا أعلم صدقاً إن كانت تُدرك ذلك حينها هي على حدّ سواء، لكنّه حدث يا " ستّ".

فيما قبل الحبّ الأول، سيبدو صوتها ضخمٌ وكلام غنائها غير مفهوم ولا محسوس، ستشعر أنك تجلسُ وحيداً في جلسة للكبار، ثمّ، تحدثُ مصيبتك الأجمل، فتتغير الدنيا، كأن الظلام ينقشع ليُشرق جمالها لعينيك وقلبك. سيبدو كلامها ناعماً، وصوتها كأنّه الكون، تحملك على البكاء عند الفراق وعلى البكاء عند الإلتقاء، وعلى التساؤل، في أسئلة الحبّ والحياة والحرب. كان صوتها المذياع، والبندقية، والشيء الوحيد الذي كاد أن يُجمع عليه عالم الضادّ.

وأفكّر صدقاً كيف يمكن لصوت -أيمتى سمعته، ومهما كانت حالتي المزاجية، وأينما كنت حينها- أن يكون مُناسباُ للحالاتِ جميعها بكل هذه الرقّة؟!وكيف له أن يزداد جمالاً كلّما سمعته صادراً من قهوة مررتها أو من ميكروباص أستقله أو متسللاً من شباك الجيران؟! كيف يمكن لصوت الستّ أن يكون دافئاً في الشتاء ككوب من السحلب وخفيفاً في الصيف كجلّابية جدّتي الشفافة؟! كيف يمكن للحبّ أن يموت يوماً في الفؤاد إن أحييته بحّة أم كلثوم أو آهها؟! كيف؟!

-
88/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا