59: في عقل شريف أقحوانةٌ بريّة: حكاية

 https://soundcloud.com/salma-saud/vljhjqzqopce
* يُرجى سماع هذا المقطع الصوتيّ خلال قراءتكم للأسطر القادمة*


وقف شريف أمام الزجاج الداخليّ لمكتبه والذي يميل لونه إلى الزُرقة، مُتذكراً وجه سوسن وهو تقول: " متخافش يا شريف، محدّش بيموت من وجع القلب، أو يعني، أنا اللي مبموتش من وجع القلب، أنا قطة بسبع أرواح "، قالتها وضحكت كأنّ خنجراً مسموماً قد أرداها قتيلة فأرادت أن تضحك للدنيا ضحكتها الأخيرة.


ما الذي حفّز ذكراها اليوم؟ ما الذي ضغط الزناد على الفؤاد الذي ظلّ لسنوات يُعامل سوسن كلوحة حائط أو مجرد رقم يحفظه الهاتف المحمول ولا تحفظه الذاكرة؟ لمَ اليوم تعود سوسن كأنّها أقحوانةٌ بديعةٌ لتفسح لنفسها مجالاً في مزهريةِ الورود الرماديّة الجافّة؟ لمَ رنّ صوت ضحكتها المتألمة بدلاً من صوت رنّة الهاتف؟ راح شريف يتساءل فاقداً لزمام أمور يومه، غارقاً في حالة من الدهشة فحسب.

كان يجب عليه أن يغادر المكتب الآن، فبرغم أطنان الورق المكدّس على مكتبه، والعمل المؤجل والمواعيد المسبقة، لم يشعر أنه قادرٌ على مواصلة اليوم خلف زجاج مكتبه، ولأول مرة شعر أن اللون الأزرق الذي يعشقه، يشعره بالغرق. لغى اليوم من تقويمه العمليّ وخرج، صفع الباب وراءه، وخرج كمن لا يخطط للعودة لاحقاً.
" أين ستذهب الآن يا شريف؟" وردّ عقله على عقله سريعاً: " لأول مرة في حياتي لا أعرف أين أدلّك! "

وراح يسيرُ في شوارع حيّ المهندسين، تُظلله أشجارها الكبيرة، ويساعده هدوء الحيّ وانزواؤه بدرجة كبيرة عن زحمة القاهرة الخانقة. ووجد نفسه يستند على سيارةٍ تقفُ أمام سفارة تونس، يمسح عرقه، أو دمعه، مُؤنّباً عقله عن سرّ ظهور سوسن المفاجئ في خياله: " أتعاقبني لأنّها كانت تحبّك وتمدحك دائماً؟ أتعاقبني!" فيردّ عقله بثباتٍ معتاد: "كانت تمدحكَ أنتَ، أنتَ عقلك يا شريف، اهدأ"، فأخذ يتنفّس بهدوء، شهيقٌ يليه زفيرٌ يليه شهيقٌ، حتى هدأ.

اتّصل سريعاً بأيمن وطلبَ منه أن يَقلّه من أمام سفارة تونس، فردّ أيمن مازحاً: "أنا خايف المرة الجاية تكلمني أجيبك من تونس"، فلم يضحك شريف، ولم ينبس أيمن بعدها بكلمة إلا عندما فتح شريف باب السيارة للنزول فقال له وهو ينظر لعمق عينيه: " أخيراً عرفت إنّها سوسن! ".


يتبع >

-

59/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا