62: تربيةٌ. وتعليم. وعدلٌ كثير : حكاية

الأستاذ المبجل رامز مدحت حسن، مدير مدرسة وربّ أسرة ومعلّم سابق. لكنّه ما زال يلبس عباءة المعلّم، لا تواضعاً بل زيادة الخير خيرين. ينزل من باب مصعد عمارته الأنتيك، يمشي في الشارع بامتلاءٍ وعظمة كأنّه أطعم الأجيال من طبق علمه المُبجّل، وأغدق عليهم محبةٍ لا تنضبّ. ثم يكمل طريقه بالتوازي مع الكراسي الخضراء القديمة التي لم يعد من لونها أي زهو، تلك الكراسي المصطفة على طول نهر النيل، ثمّ ينعطف يميناً ويكمل مسيره بذات الخيلاء، تليها انعطافةٌ إلى اليمين كذلك ليسير بين بضع عمارات حتى يصل لبوابة مملكته وسطوته الهائلة، بوابة المدرسة.

في الصباح، بعد أن انتهى الطابور وانتهت معه ضوضاء الطلبة والمدرّسين وعزف الآلات الموسيقية التي كانت وما زالت تقرع في عقله لا في مكبّرات الصوت، وبعد أن انتهى من تناول شايه الصباحي الذي أعدّه عمّ عماد، وبعد أن وقّع ما وقّع، راح يسير في المدرسة كطاووس، يريدُ أن يطمئن، لا على الطلبة، ولا على المدرّسين، ولا على الإنضباط، كان يريدُ أن يشعر أنّه يسيطر على كل شئ، وأنّ كل شئ في مقامه الذي أقامه له. كان يريد أن يرى نجاحاً لشخصه يتمشى بين أروقة المدرسة ولن يقبل بما دون ذلك على كل حال.

في بداية مسيره، مرّ بطالبان يبدو عليهما بلاهة واستكشاف مرحلة الإعدادية، ارتبكا وخبّئا ما كانا منشغلين فيه سريعاً، حاولا أن يحافظان على ثباتهما لكن نقصاً في الخبرة قد هز كيانهما، في الإعدادية يبدو كل شيء صعب الحلّ، وكل مصيبة مستحيلة الإفلات. لكنّ الأستاذ العظيم رامز فهم ما كانا يتحلّقون حوله، هو كما تعلمون " ما اتولدش امبارح "، اقترب منهما وسألهما السؤال المثير للتوتر: " بتعملوا إيه؟ " فردّ من كان يبدو الأجرأ:" ولا حاجة يا حضرة الناظر، كنت بشرحله حاجة في المنهج"، فردّ سريعاً: " على امتحانك إنتَ وهوّ. "، ثم مضى في طريقه.

ثم صعد الدور الثاني حيث صفوف الثانويّة ليكمل حَملته التفتيشيّة، سمع صوت هرج ومرج يخرج من الفصل قبل الأخير، على ما يبدو تأخرت أستاذة ابتسام كعادتها،"سأطلبها لمكتبي فيما بعد" أسرّها في نفسه، لاحظ من الشّباك أنّ ثلاثة شّبانٍ يلتفّون حول أحد تلامذة الفصل، سمع سبابهم، كان واضحاً وواثقاً ومفعماً بالمراهقة والوقاحة، ولاحظ أنّهم يتطاولون عليه بالأيدي. فتح الباب بسرعةٍ ونظر لهم وقال بصوتٍ عالٍ وحازم: " كل واحد يرجع لمكانه يا حيوان منك لُه، فين ميس ابتسام؟ "، انتفض الطلاب والتزم الجميع مقعده، ونظرةُ حزنٍ أو فقدان للأمل تعلو وجه الطالب المُستضعف. لكنه أردف: " هبعتلكم حدّ حالاً بدالها، اطلع يا كريم اقف عليهم لحد ما أستاذ أحمد يوصل". وغادر الفصل.


وفي نهاية رحلته، نظر نظرة سريعة لحوش المدرسة، ولولا نظارته الثاقبة لما كان رأى هذا المشهد المهيب، "فتاة في أحضان شاب في مدرستي" قالها والبراكين تغلي في رأسه.

في مكتبه. بدا كأنّ عزاءً على وشك أن يقام، الفتاة تبكي والشابّ يبكي، والأستاذ رامز يصرخ بكل قسوة: " أحضانٌ في مدرستي، ده أنا هأدبّكوا!". ثم نادى على الوكيل والأخصائيّ الإجتماعي للمدرسة، لا للتشاور ولكن لنشر الفضيحة. هكذا ارتأى أنه يصنع الأجيال من بعده. نظر لكلاهما ثمّ وجّه حديثه للفتاة كأنّه يصلبها بنظراته: " طب هو ولد، ممكن يحضن ويدخن براحته، إنما إنتِ بنت! بتعملي كده إزاي!". نقل نظراته إلى الشاب من خلال عدساته الكبيرة حيث قال: " ارجع على الفصل." وقبل أن تنصرف الفتاة أوقفها: " إنتِ بقى مش هترجعي على الفصل. فصل يومين تلاتة عشان تتأدّبي". وضرب قبضته على مكتبه.

-

62/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا