154: في الحياة، ميلادان.

وإنّي أحبّك كاملاً مهما كان نقصك، وإنّي أحبّ نقصك حتّى الكمال، وإنّك كاملٌ ما دمت لي، وإنْ لم تدم لي، فلا كاملٌ إلا الذي سوّاك.

والحبّ لا يعرف الرحمة، ولا يبعثُ على النجاة، ولا يُسرّ بحزنه لأحد، ويحب أن يُشارك سعادته مع حويصات الأرض حتى أجنحة الطير. هو انقباضةٌ في كامل الجسد تنبع من المنتصف كأنّها نقطة التكوين أو مكمن الولادة وهو أبعد ما يكون عن كليهما، لكنّه يُنسيك ما لم يكن منه فتكاد تنسى كل ما عايشته قبله وتحفظ عن ظهر قلب كل ما عايشته به، وسيورّطك في شعورٍ غريب، كأنّ لميلادك يومان، يومٌ بكيت فيه بكاءَك الأول مقلوباً رأساً على عقب ويومٌ انبثق فيه فؤادك فراشةً من شرنقة حزنه ومخاوفه ووحدته.

هذا الشعور الجميل الذي يجعل صوصوة الأغاني في الكرسي الأخير من الميكروباص مشاركة ودودة وليست اقتحاماً للخصوصية، وملعقة السكر التي نُسيت من كوب الشاي الذي تحبّه فرصةً للريچيم وليست معاندةً من الدنيا، و المسمار المتخفّي في طرف الباب الذي نزع عنك سترتك المُفضًلة ليس إلّا فرصة لتزور الخياط الذي تحبّ التسامر معه فيضيف له وروداً وأغصاناً فيعود جديداً كأنّه ابن اليوم. هكذا فجأةً، تغدو الحياة صحناً كبيراً من طعامك المُفضّل، تأكل منه ما تأكل فلا تشعر بالجزع.

ورغم كل محاولاتك في التمنّي والأمل بألا ينتهي كل هذا، إلا أنك تعلم في قرارة نفسك أنه ليس بدائم، وتخاف، تخاف أن تكشّف لك الدنيا عن أنيابها، كأنّها قطة وديعة قررت القفز على صاحبها، ومع كل ذلك تستمر، لأنّ الحبّ لا يعرف الرحمة ولا يبعث على النجاة ولا يُسرّ بحزنه لأحد.

-

154/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا