155: مصدر النور والنار: شبّاك صغير

مربعٌ صغير، كأنّه منفذ فأر لكن على مستوى تكبير مُضاعف عشر مرات، يُمكّنك من العبور بعينيكَ حول الساحة التي أمامك، فترى جانباً من شباك التذاكر وجانباً من مدخل عيادات المركز وجانباً من السلم الصغير الذي يأخذك إلى مكتب المدير. في كل صباح وحتى منتصف الظهيرة، تحمل تلك الساحة كل أصناف الأسى، على الأغلب لا يلجأُ للمشافي الحكومية إلّا الذّين لا يملكون بُداً من الحكومة، أو الذين أخذتهم طارئة للذهاب لها دون غيرها لإنها قريبةٌ ولا مجال للإبتعاد، وهذا ما يجعل الصورة بائسة عبر هذا الشبّاك كل صباح، لإنّك تعلم أن من تراهم وتُعاملهم بشكلٍ يوميّ، مُثقلون، بل متشبّعون باللاحيلة حتى الثمالة. 

هذا المربّع عزيزي القارىء، وإن لم تكن يوماً قد مررت بأيّ مشفى حكوميّ سواء كنت فيه موظّفاً أو مريضاً أو زائراً، فهو أمر شديد الغرائبية على خيالك، لكن دعني أحاول، دعني أتقدم خطوتين إلى الأمام فافتح لي الباب رجاءً. 

هذا المرّبع شباكٌ، حلقة وصلٍ ما بين جبهتين، ما خلف المنفذ، صيدلية تعجّ بالأدوية، كراتينٌ مُكدسّة كهمّ الناس، علب أدوية مفرّغة في علبٍ أخرى أصغر بحجم راحة اليدّ، لتُسهَل على الصيدلانيّ صرف شريط واحد فحسب من كل دواء للمريض، كرسيّ، دفاتر التسجيل الكبيرة جداً كأنّها اللوح المحفوظ، ثلاجةٌ لا دواء فيها لكنّها موجودة، مروحتان - اللهم لا حسد-، واحدةٌ لها قائم يثبتها بالأرض وواحدة معلقة على الحائط. على الجبهة الآخرى، الناس، يمسكون روشتاتهم الزرقاء - تُسمى بحكم العادة تذاكر-، تتكوّم أذرعتهم فوق بعضها على أمل أن تنتصر العافية على النظام، فتنتصر كعادتها في بلادنا.

أمّا أنا، فأتحوّل، لا لإنسانٍ جامدٍ بل لإنسانٍ لا يُفعَل العاطفة بشكلها الطبيعي، أو بحجمها الحقيقيّ، لإنّ العاطفة تلك نقطة ضعف، بابكَ المتهالك المُسند لمُسمار صَدىء لو نفخَ فيه، تهاوى أرضاً. تخيّل أن يقنصك أحدٌ من مكمن ضعفك، تخيّل! شيّد حصونك ما استطعت، فالناس ترى العيون وترى في العيون أبعد من لونها الدافىء.

لكن، امرأةٌ واحدة، امرأةٌ واحدةٌ فقط ما زالت في ذاكرتي، غفلت عنها ثوانٍ لأسجّل جرعة العلاج على علبة الدواء وكان وجهها ساكناً، أخبرتها أنها ستحتاج أن تقطع تذكرةً أخرى للتحاليل، وعندما عاودت النظر إليها لأتأكد أنها فهمت الجرعة شهدتُ لحظة ضعف إنسانيّ؛ سقوط بابها الخشبيّ، ثمّة دموع تتساقط من عينيها دون كلام، دون نحيب ودون زعابيب هواء ولا أعاصير. دموعٌ وحسب. لمَ؟ تفسيراتٌ كثيرةٌ قد تحلّ السؤال لكنني فضّلت ألّا أفكر بإحداهم، وفضلّت أن أنظر إليها، دون أن أشعرها أنني شهدتُ لحظة كتلك، أكملت شرح الجرعات، نظرت لها بضع مرات أكثر من اللازم، علّها لامستْ ما شاركته معها. علّها فهمت أنني أردتُ أن أحترم لحظتها. علّها.

في الثانية ظُهراً، أغلق مصدر النور ومصدر الناس ومصدر النار، على شبّاك منفذ الفئران، أثّبت خشبة مُستطيلة، أطرق الباب، وأرحل.

-


155/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا