160: عدسةٌ مكبّرة

يجبّ عليّ أنْ أتعلّم التدوين خلال اليوم، لأنّ أياماً طويلةً ومكتظة كاليوم، قد تُنسى، تحديداً إذا عايشتها أنا، امرأةٌ بذاكرة سمكة.

الإبصار فيما هو أبعد من الشكل السطحي للأشياء، يجعلك ترى الصورة أجمل، أو على الأقل أكثر صدقاً وأقل تكلفة. يمكنك مثلاً أن تنظر في عيني البطّة المستكينة في " النقّالة" * منتظرةً نصيبها الذي سيأتي ليدفع مهرها ويعود بها إلى بيتها، أو مثلاً أن تتأمل الفاكهة الطازجة التي تعاكسك قائلة: طازة يا بيه، طازة يا أبلة. الإمتزاج المُسالم للكناتٍ مختلفة، ما بين السوريّ والمصريّ والبدوي، أو ما نقول عنه عرباويّ، وهي لكنة مصرية لكنْ لها وقع سمعيّ مختلف، يتميّز بها البدو إن جاز تسميتهم كذلك، الذين يتخذون من الفدادين الواسعة المتروكة لفترات أرضاً لهم، فيرعون فيها أغنامهم ويشيّدون فيها خيامهم بوضع اليدّ لا بامتلاك الأرض.

اقترابنا من الأرض، اقترابنا من البساطة التي تكاد تلامس الفقر، اقترابنا من الإبتسامة التي تتقنّع خلف المعاناة والمهدئات، هو اقترابنا لروح الإنسان، لأنّ روح الإنسان لا تقبل القِسمة على الراحة، هي روحٌ لا تعرف سوى الكَبد المُكبّد.
لكن، يُحاول الجميع، كُل من أعرفهم أو حتى أراهم مُصادفةً تبدو عليهم سمات المحاولة، ثمّة ركضٌ في أعينهم، وأرواحهم تلهث، إنّهم يحاولون بكامل كينونتهم نحو النجاة.
لذا ما ضير الإقتراب من الأرض؟! فيه أحياناً اقترابٌ موازٍ للسماء، والإقتراب من الإبتسامة هو ذاته الإقتراب من البكاء، تخيّل كلما جاورك البكاء، ابتسمت. لن تكون ابتسامة فرح لكنْ ستكون ابتسامة تماسكٍ أو ضبط أمن النفس، ستكون ابتسامة تشبه الدموع، لكن لا بكاء فيها.
وأما روح الإنسان كلما اقتربنا من داخلها، وجدنا فيها المساءلة والمسألة والشقاء اللعين، لكننا لا نكفّ عن الإقتراب.

في سوق الخضار اليوم شهدت انبثاق مولد فرصة جديدة للإقتراب والمشاهدة عن كثب، فرصة للإقتراب من المتناقضات والشعور بالرضا، فرصةٌ لمشاهدة السماء التي تبدو جميلة بشكل لا يُصدق تحديداً من بعد الثالثة عصراً حتى الغروب. كلّ هؤلاء لم يملكوا فرصةً للنظر للسماء ولو لثوانٍ، أما أنا فامتلكتها، يالها من لحظة!

-
* النقّالة: لفظ مصريّ يصفُ تكويناً خشبيّاً يشبه الصندوق لكنّه مكوّن من أعواد عريضة من الخشب تتشابك مع بعضها على شكل شبكة لتكون الصندوق، يستخدمها الناس في الأرياف وحتّى بائعو الخضار في الأسواق ليضعوا فيها بضاعتهم.
-

160/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا