165: زووم..

وجدتُ سرّ التيه. أو هكذا أظنّ.

اليوم، في طريقي إلى دمياط القديمة، مررتُ على موقف للميكروباصات في منطقة السنانية، الزحام كان خانقاً وأكثر من المعتاد، الطلبة يندفعون من الكورسات باتجاه المواصلات، النساء يزاحمن الرجال، والموتيسكلات تستقوى على السيارات، والهواء بذاته مختنق ويسعى لمنفذ لكي يتنفس. وفي خضمّ كلّ هذا، رأيت " تاندة " بعيدة جداً (وهي مظلّة توضع على الشُرَف الكبيرة لتمنع عنها الشمس وماء المطر) وبرغم البعد كانت تفاصيلها واضحة وبيّنةً كأنّها قِبالة عيني تماماً وليست على بعد عشرات المترات في الدور الرابع!

تفاصيلها كانت عريضة وبسيطة لا فلسفة فيها ولا مميزات. كانت واسعة الملامح، ورقتين خضراوتين كورق الزرع وبينهما بضع بتلات وردة ناعمة. كأنّ مصوراً قد قرّب الصورة كثيراً حتى ركّزت العدسة كامل قوّتها على جزء منها وأهملت الباقي. ماذا سيحدث لو صغّر المصوَر المشهد، ضيّق الزوايا وأعاد بأصابعه الكادر في مستواه العادي؟

سأحكي لكم حكاية سريعة. لا طالما آمنتُ أنني جزء من خطة، خيطٌ في لعبة ماريونت، أو لعبة الماريونت بشخصها، لا طالما آمنت بالسببية في الأحداث، وبـ "كل شيءٍ خلقناه بقدر" إلا أنّ أياماً ثقال قد تمرّ على الإنسان حتى تفقده اليقين بهيئته المهندمة الواثقة تلك، وتحوّله لشبه ثقة تحاول النجاة من زلزال زعزعة الثوابت.

في الأيام الثقال، لن ترى من حياتك سوى ما تُقدمه هي لك الآن، لن تفهم لمَ يحدث كل هذا وكيف حدث ولمَ لم ينقذه أحد؟! صورتك المقرّبة على القوة الخامسة ستكون هي كل ما تملك، ولن يكون بإمكانك أن تُصغّر المشهد بأصابعك لترى الكادر كاملاً كما يفعل من صوّرها.

التيه، هو هذه الحركة المفقودة، الرفاهية التي يتمتع بها مصوّر يحمل كاميراته حول عنقه مترنّماً بذاته ولا تملكها أنت. لذا عندما رأيت التاندة، كانت كأنّها قطعة أُخذت من أحجية، وكُبّرت، وُضحت معالمها وعُلقّت. تبدو ناقصة بذاتها إلا أنّها توحي لك بتكوين ما، فتعلم رغم جزئية الصورة، أنّ ورقتين خضراوتين وبضع بتلات سيكونون جزءاً من التكوين، وقد يخدعك التكوين فتجد أنّ البتلات كانتْ خصلات شعر وأن الورقتين الخضراوتين كانتا عدستين لامعتين مثلاً!

جزءٌ كبير من إحساسنا الأصيل والمستمر بالضياع يكمن في تخفّي أجزاء كبيرة من الصورة، بينما كل ما نعايشه ونفهمه هو جزء واحد فحسب. وهذا ما وجدته عن سرّ شعورنا، وعلمت في نفسي أنّ " المصوّر " الذي يعلم الصورة الكاملة، وهو الذي التقطها بذاته، اختار أنْ يقرّب أبعاداً معينة في وقت معين، وبإمكانه أن يصغّر الأبعاد فتغدو التفاصيل التي كانت واضحة ضئيلة وغير مهمة، لكنّ صورة كبيرة أخرى ستغدو أكثر وضوحاً ودقّة مع الزمن. فانتظر.

-

165/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا