171: تمثالٌ من فراغ..

الوحدة أمرٌ مدهش. بل حزين. حزين ومدهش على حدٍّ سواء. ولا شكّ أنكَ عايشت أو تعايش أو ستعايش هذا الشعور لفترة من الزمن، وقد تختاره أحياناً بمحض إرادتك لا كامل رضاك؛ لأنّه يتقنّع بقناع الحلّ المريح، الذي يُخبّىء تحته وجهاً له ملامح أكثر واقعية وأقل سلاماً. هو لا يكذب لكنّه بالطبع يُراوغ. وقد يختارك هو، فتُساق إليه على غفلة منك حتى تجد نفسك واقعاً فيه.

أخافُ الوحدة. نعم. وتُثير في داخلي الرعب، ويحتار عقلي في كيفية دمجها بمسميّات أخرى لأموّه عنه وقع معناها، أعني أحياناً تكون: نُضج. مسؤوليةٌ جديدة يجب أن أتحمّلها. الدخول في تجربةٌ جديدة. النجاح في إتمام مصلحة حكومية. الظفر بكرسيّ واحدٍ بجانب شبّاك الطائرة ورحلة لا كلام فيها. الإعتراف بأن الحياة لا تقف على أحد. لكن عقلي طمأنني ذات مرة فوشوش لي: لستِ وحيدة، أنتِ فقط بمفردك. وصدقته.

أنا. هذه المَفردة الغريبة، التي تَمثّل ذات الإنسان، تُمثّلني. مجنونة اللغة، فقد قررت أن ألِفان يتوسطهما نون هو تعبير دقيق عن النفس، عن كل ما تحمله من ذنوب وتوبة، عن كل ما تحمله من أفكار متمردة وانتماءات جنونية، عن كل من أحبّت وكل من عشقت وكل من حاولت صدقاً أن تحبّهم وفشلت مساعيها. أنا، التي تحمل من الوحدوية والوحدة ما يكفي لملئ الكفتين معاً، فتتزنان. أنا، والتي رغم صعوبة وشمولية وضآلة ما تحتويه إلا أنّ فؤاد حدّاد وجدها - ككل مرّة وجد فيها كنز الكلمات الضائع-: "كلمة أنا ما تحلاش إلا بدفا الجماعة. زى لمّا تخبط على باب الحبايب ويسألوا "مين؟" تقول "أنا" ويعرفوك من حسك".

تخيّل أن تقول " أنا "، فلا يعرفك أحد، سواك. هذه هي الوحدة الحقيقيّة. الوحدّة الفجّة التي تذيب القلب، وتمتصّ من الحياة ما بها من مفاتن، فتغدو كل السعادات بلا قيمة، كتمثال عظيم للفراغ! وأعلم تماماً أنّها لم تكن مسعىً لأحد إلا لأنه وجد فيما دونها هلاكاً، لكنّ شعوراً بقسوة الوحدة وبجاحتها وانعدام إنسانيتها لن يكون سوى اختياراً على مضض وليس انتصاراً.

ابحث عن طريق الخروج من هذا الظلام المرعب، لا تعش في الوحدة، ولا تختر أن تكون تمثالاً هائلاً من الفراغ. كسرٌ مضاعف في صُلب اللمة أهون من خدش بسيط في جسد الوحدة.

-

171/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا