178: و قَاوِم..
قررتُ اليوم أن أمضي وقتاً أكثر أمام المدونة، لعلّ قلقي تجاهها يتضاءل، أو أرضى من خلالها عن نفسي قليلاً. ولم تكن المدونة مجرد تحدّي، لم تكن تحدٍّ من الأساس حتى وإن أسميتها كذلك، بل كانت حلقة الوصل بيني وبين الكتابة اليومية التي أحبها بالطبيعة ووقف الكسل حائلاً بيني وبينها لسنوات، وقررتُ أنّه يجب على ذلك أن ينتهي. حتى وإن لم ينتهِ بالفعل، ظلّت المدوّنة هي المحاولة الأخيرة في نهاية كل يوم لكي أقف أمامه بما تبقّى من قوّتي، وأخبره: " ليس لك عليّ سلطان يا عزيزي. أنا أقاوم ".
وأنا بالفعل أقاوم. دائماً أقاوم. ولأبي دورٌ كبير في هذه المقاومة، رغم أنّه لم يكن متوّرطاً يوماً في أي نوع من المقاومة الوطنية ولا يحبّ إلا أن نمشي آمنين جمب الحيط، إلا أنّه لم يتوقف عن المقاومة يوماً، في سعيه المستمر للمثالية أكبر تمرّد في وجه المجتمع الموحل في الطين. اهتمّ ببلاده لكنّه لم يُفنِ عمره لها، بل أفناه لبيته والأربع فتيات " اللي طلع بيهم من الدنيا " وزوجته المُحبّة التي اختارته دائماً وأبداً في أشدّ وأحلك أيامه كما اختارته في أكثرهم رخاءً.
يجوب في خاطري هاجس " لمَ نقاوم؟ لمَ؟ "، كما يجوب في خاطر كل من أعرفهم تقريباً. في هذا الزمان باتت المقاومة ضرباً من الجنون على أقل تقدير إن لم تكنّ لبّ الجنون ومكمنه. انظر حولك جيّداً، تمعّن في الأحداث والتواريخ والأرقام، حاول ألا تغطس في حزن شديد القسوة خلال هذه الرحلة، حسناً، تمعّنت، هاه، حدّثني عن ما قدّمت رغبة الإنسان في المعافرة للإنسان نفسه؟ سوى الأذى واستنزاف الطاقة وتعرّضه لمهاترات الدنيا والدين! وعندما تتبدّل تلك الهواجس على رأسك، يعتريك حزنٌ غريب، لأنّك فجأة تدرك قسوة الدنيا؛ بأنّ المقاومة نابعة من الأمل، وأن " في أمل .. إيي.. في أمل " بصوت فيروز تتوقف عن لمس شغاف القلب كلما مرّ العمر بك محطة تلو محطة.
وكلّما نظرت لجدّتي، أو حتى لنوع الحياة التي عاشها أبي وأمي، أعرف لمَ كان الأمل حاضراً، ولمَ كانت المقاومة جزءاً من تكوينهم كأنّهم مجبولون عليها، على عكسنا، نحن الذين نخوضها على أمل أن تكون رفاهية يمكن العيش بدونها بينما هي حرب بقاء. حياةٌ أو موت. معافرةٌ لا نقدر بعدُ على ممارستها لأنها لم تكن يوماً منسابة وسلسة في دواخلنا.
لم يحتاجُ جدّي أن يُثبت لأبناء بلاده أنّه مصريّ أصيل يحبّها ويريد لها أن تكون أرضاً حرّة غير منهوبة، لأنّه لم يكن بحاجة لأيّما نقاشات واهية بينما كانت البلاد تخوض حروبها مع العذو الحقيقي. لم تحتاج جدّتي أن تعايش التحرش رغم فستانها القصير وشعرها المهندم ومكياجها الأنثوي، لم تخف من هذا الذي يمشي خلفها أو يركب بجانبها في المواصلات. من تَعِب، مات سريعاً، ومن مات بُكيَ عليه ثم نُسي وثبتت زياراته الدورية في المقابر، من تعلّم تعلّم وأصبح أستاذاً ومن لم يتعلّم عمل في فدادين أرض أبوه، وأصبح مزارعاً لا بال له سوى الأكل ومشاهدة التلفاز في نهاية اليوم، والنوم قبل التاسعة. أبي كان يريد أن يصبح مًهندساً، عمل ليحصل على المال ليتمكّن من دخولها، لم يكن يملك وقتاً ليبكي ليلاً على مخدته، ولا إدراكاً قاسياً كهذا الذي نملكه الآن، كان فقط يعمل لأنّه يريد أن يقاوم لحلمه. بدت الأمور أبسط على ما أتوقع.
لكن هل مع كل هذا الإدراك نتوقف عن المقاومة؟ لا. بعضنا يفعل أعلم ذلك. لكن الإجابة لا، لأنّ مسنّة متهالكة مات ولداها وبقيت هي، تسير بعدُ في طريقها باتجاه المشفى لأخذ العلاج، هي كل إجابة تحتاجها. نحن لا نتوقف عن المقاومة، إلا إذا توقفت المقاومة عنّا.
-
178/365
178/365
تعليقات
إرسال تعليق