180: ندبتي السريّة..
لديّ جرح قديم أسفل رأسي ما زلت أشعر به كلما فركتُ شعري أو تحسستُ بألم ما. ولا أُخفيكم بالاً، أشعرُ أنّه ختمُ بالشمع الأحمر فيصعبُ التخلّص منه حتى وإنْ حاولت ذلك. كأنّه ندبةٌ أبدية للصخرة التي أملكها من العند بدلاً من رأسي!
طفولتك تُفسّر أغلب الأمور التي تمرّ بها، أغلب المشاعر التي تعتريك والتي تبحث عنها بكامل قوّتك، والتي تنفر منها على حدّ سواء، تُفسّر طباعك وأغلب الرغبات القابعة في باطن باطن أعماقك، وكذا تُمثّل جزءاً كبيراً من مخاوفك التي تكبر معك وتشيخ بك. وأعود بذاكرتي لمواقف كثيرة أقدمتُ عليها بعنفوانٍ تام وتهوّر غير مسبوق في الطفولة تجعلني أفهم طبيعة نفسي اليوم، وتجعلني أجد على الأقل ولو تفسيراً مؤقتاً لما يحدث ؛ فأقول ببالٍ شبه هادئ "لا طالما كنت كذلك ".
سقطتُ مرّة على طرف الطاولة، كان الألم كبيراً على طفلة في الرابعة أو الخامسة من عمرها، لا أتذكّر تحديداً، لمستُ أسفل رأسي بطرف أصابعي، ثم أعدتها أمام عينيّ فوجدتُ دماً. لم أبكِ. ولم أنبس ببنت شفة لأحد، رغم اضطراب ماما الواضح الذي ظهر في صوتها القادم من بعيد : "حصل حاجة؟ " فرددت بالنفي سريعاً لرمي التهمة عني : " لا مفيش حاجة "، ورغم أنها أتت للتحقق بنفسها، أكدّت لها: " مفيش حاجة مفيش حاجة" وما التهمة بالله؟!
بالنسبة لطفلة تسعى للكمال كانت تهمة الإهمال فكرة لا أتحمّل الوصم بها. فاخترتُ الصمت. وأعتقد أنني خِفت عندما رأيتُ الدم وقلت: " قد تكون بحاجة لغرز! لا أعرف! ". " لكن لن أوقظ ماما وبابا على أمرٍ تافه كهذا". " ثم لا أحبّ أن أبدو ضعيفةً أكثر من اللازم، كانت خبطة ساذجة، وهذا الدم سيتوقف، ليس غزيراً على أية حال". بالفعل لم يكن غزيراً، لكن طفلة لم تدرك هذا لأنها بطبيعة الحال لا تعرفُ ما الجرح الذي يحتاج الخياطة وما الذي لا يحتاجه.
" هنام، وبكره هبقى كويسة."، " أكيد لو الوضع خطير الدم هيزيد وهصحى وساعتها هنروح المستشفى ". تفكيرٌ مجنون وساذج وعنيد. وهكذا قررت، لن أُخبر أحد. ولم أخبر أحداً لأنني استيقظت في اليوم التالي بدم متكتلٌ ومتجلّط في موقع الجرح، ولم يكن في الأمر حاجةٌ لخياطة ولا غيرها.
هذه الندبة، التي لا يعرف عنها أحدٌ مطلقاً، حتى هذه اللحظة، ظلّت تذكرةً دائمةً لي بشعور لا أتبيّنه تماماً، كأنّها رسالة لا أعرف ما مغزاها ولا بأي حالٍ يجب أن أقرأها، لكنني أحتفظ بها دائماً في الدرج الأول من مكتبي لرابط ذرّي بيني وبينها. ندبةٌ على قدم حدوثها، تمدّني بالقوة، بأنّ طفلة في الرابعة قررت أن تتحمل عبء سقوطها بمفردها، وأن تمسح عنها الدم دون أن تُزعج أحداً، وأنّ ما فعلته وإن بدا أحمقاً وغير دقيق إلا أنهّ يطمئنني بقوةٍ داخليةٍ أتكئ عليها منذ الصغر على ما يبدو.
-
180/365
طفولتك تُفسّر أغلب الأمور التي تمرّ بها، أغلب المشاعر التي تعتريك والتي تبحث عنها بكامل قوّتك، والتي تنفر منها على حدّ سواء، تُفسّر طباعك وأغلب الرغبات القابعة في باطن باطن أعماقك، وكذا تُمثّل جزءاً كبيراً من مخاوفك التي تكبر معك وتشيخ بك. وأعود بذاكرتي لمواقف كثيرة أقدمتُ عليها بعنفوانٍ تام وتهوّر غير مسبوق في الطفولة تجعلني أفهم طبيعة نفسي اليوم، وتجعلني أجد على الأقل ولو تفسيراً مؤقتاً لما يحدث ؛ فأقول ببالٍ شبه هادئ "لا طالما كنت كذلك ".
سقطتُ مرّة على طرف الطاولة، كان الألم كبيراً على طفلة في الرابعة أو الخامسة من عمرها، لا أتذكّر تحديداً، لمستُ أسفل رأسي بطرف أصابعي، ثم أعدتها أمام عينيّ فوجدتُ دماً. لم أبكِ. ولم أنبس ببنت شفة لأحد، رغم اضطراب ماما الواضح الذي ظهر في صوتها القادم من بعيد : "حصل حاجة؟ " فرددت بالنفي سريعاً لرمي التهمة عني : " لا مفيش حاجة "، ورغم أنها أتت للتحقق بنفسها، أكدّت لها: " مفيش حاجة مفيش حاجة" وما التهمة بالله؟!
بالنسبة لطفلة تسعى للكمال كانت تهمة الإهمال فكرة لا أتحمّل الوصم بها. فاخترتُ الصمت. وأعتقد أنني خِفت عندما رأيتُ الدم وقلت: " قد تكون بحاجة لغرز! لا أعرف! ". " لكن لن أوقظ ماما وبابا على أمرٍ تافه كهذا". " ثم لا أحبّ أن أبدو ضعيفةً أكثر من اللازم، كانت خبطة ساذجة، وهذا الدم سيتوقف، ليس غزيراً على أية حال". بالفعل لم يكن غزيراً، لكن طفلة لم تدرك هذا لأنها بطبيعة الحال لا تعرفُ ما الجرح الذي يحتاج الخياطة وما الذي لا يحتاجه.
" هنام، وبكره هبقى كويسة."، " أكيد لو الوضع خطير الدم هيزيد وهصحى وساعتها هنروح المستشفى ". تفكيرٌ مجنون وساذج وعنيد. وهكذا قررت، لن أُخبر أحد. ولم أخبر أحداً لأنني استيقظت في اليوم التالي بدم متكتلٌ ومتجلّط في موقع الجرح، ولم يكن في الأمر حاجةٌ لخياطة ولا غيرها.
هذه الندبة، التي لا يعرف عنها أحدٌ مطلقاً، حتى هذه اللحظة، ظلّت تذكرةً دائمةً لي بشعور لا أتبيّنه تماماً، كأنّها رسالة لا أعرف ما مغزاها ولا بأي حالٍ يجب أن أقرأها، لكنني أحتفظ بها دائماً في الدرج الأول من مكتبي لرابط ذرّي بيني وبينها. ندبةٌ على قدم حدوثها، تمدّني بالقوة، بأنّ طفلة في الرابعة قررت أن تتحمل عبء سقوطها بمفردها، وأن تمسح عنها الدم دون أن تُزعج أحداً، وأنّ ما فعلته وإن بدا أحمقاً وغير دقيق إلا أنهّ يطمئنني بقوةٍ داخليةٍ أتكئ عليها منذ الصغر على ما يبدو.
-
180/365
تعليقات
إرسال تعليق