186: جسدٌ ممطر



ابتلّ سريري للمرة الأولى. وكلّ ما فكّرت فيه حينها: كيف يمكن لي أن أختفي؟ أن أختفي الآن وللأبد؟

             -  " فعلت
َها ثانية؟ "

أعرفُ هذا الصوت، أشعر أنني أعرفه جيّداً، لا يمكنني تحديده تماماً، لكن له نبرة حنونة وهادئة أعرفها.

                   -   " لا بأس، سنغيّر الملاءة وملابسك يا صغيري، لا تنزعج. سأغسل غطاءك الخفيف هذا سريعاً لكيلا تشعر بالوحدة. حسناً؟"
                   -          " حسناً". بكل شرودٍ، بكل ضياعٍ، قلت "حسناً".

الشبّاك الزجاجيّ خلفي يستنجد من شدة المطر الهاطل عليه، وقطرات المطر قويةٌ وحادة ومتتابعة، كأنّه واقع تحت تهديد وابل من الرصاص. هل من الممكن أن يكون هذا البلل الذي تحتي قد تسلل من الشبّاك وليس من مثانتي، أعني، لابدّ لهذا البلل ألّا يكون لي، ألا يكون منّي!

                  -   " جلبتُ ملابسك، سأغيّرها سريعاً وسأُجلسك على كرسيّك لحين تبديل الملاءة والغطاء. حسناً؟"
                  -   " حسناً". بكل حياءٍ وخجل من بقعة الماء الكبيرة الممتدة من أسفل ظهري حتى ركبتيَّ، قلت: " حسناً"

لم يكن إدراكي كاملاً، شعرتُ أنّ وعيي متقطّع كإرسال جهاز مذياع قديم، تفاجئني هلاوس ثم مشاهد كاملة، لا أتأكد تماماً ما إذا كنت عشتها مسبقاً أم أنها خطوط خيالي المتشابكة كالزمكان. 
على الحائط، صورةٌ تحدّق بي، " كيف تقدّمتُ في العمر هكذا؟"  تبدو ملامحي متراكمة تقسمها خطوط رفيعة كتلك التي في وجه السيدة التي تساعدني. هل أتخيّل الآن؟ أهذا أنا بالفعل أم تلك صورةٌ لجدّي؟ لا طالما أخبروني أنني أشبهه. ربّما اختلط عليّ الأمر. هذا ليس أنا، لا هذا ليس أنا.

غريبٌ لون هذا الحائط، له مزجٌ نادرٌ بين اللافندر والأخضر الفستقي الباهت، لكنّه لا يبدو غريباً عليّ، كأنني قد مزجته بكلتا يداي، هاتان اليدان الغارقتين في البلل الآن. بينما ثمة يدان أخرتان تغيّران ملابسي بكل هدوء ورضا كأنّها تغير حفاضات رضيعها. أنا لم أعد رضيعاً، أنا في العاشرة من عمري الآن. أنا في العاش.. أم الحادية عشر؟ لا يهم. المهم أنني لم أعد طفلاً مُدللاً ولي جسدٌ يتعرّف على الرجولة ما زال.

مريبٌ كيف أشعر أنّ هذا اللون لوني المفضّل. لكن كيف تحول لون الحائط من البيج البارد لهذا اللون؟ أعني متى؟ البارحة فقط كانت الغرفة مكسوة بالبيج كأنّها قطعة من الصحراء. مع ذلك لمْ أسأل.

                 -          " أيعجبك لون الحائط يا صغيري؟ "
                 -      همهمت. " غريب. لكن جميل ".
       ونظرتُ لها كأنني ألحظها للمرة الأولى ، وقلت:
-           " حتى أنتِ، غريبةٌ لكن جميلة."

      ابتسمتْ ابتسامة ماراثونيّ وصل لخطّ النهاية. ابتسامة ممتزجة بتعب بالغ جليّ يمكنني أن أراه مختبئاً تحت الرموش المتهدلّة والحدقتين الواسعتين اللتان تبدوان كنهار شديد الغيام في منتصف أمشير، شمسه تحاول أن تحرّك الغيمات المُغشِيات عنها، وبدلاً من أن تنجح، تتكالب الغيمات فوقها فتبكي.

                -          " أتبكين يا شمس؟ " قالها وهو ينظر إلى النافذة الصامدة في وجه الأمطار ثم في ثوانٍ أشاح نظره فثبّته على عينيها، فكرر: " أتبكين يا شمس؟!" لكنّ الشمس لم تردّ جواباً.
                -          " سأفتح زجاج النافذة حتّى يتسنّى لك أن تسألها بنفسك، حسناً؟"
                -          " حسناً" بكل حماسةٍ وترقّب، قلت " حسناً".


وما إن فُتحت النافذة، حتى تمدد جلد وجهي باتجاه الريح، وتبللت، تبللت، تبللت، حتى نسيتُ البقعة الغامقة على بنطالي، وكاد المطر أن يخترق جلدي لشدّة انغماسي فيه أو انغماسه فيّ. ماذا لو اخترقه؟ هل سأغدو غيمة يمكنها أن تهزّ نفسها لتسقط مطراً على من تحب؟! أم سأصبح تفنوت العظيمة لكن بجسد مراهقٍ في الثانية عشر؟ أو الحادية عشر، لا أتذكّر تحديداً..

راحت السيدة تُزيل عني ملابسي المثقلة بالبول، قطعةً تلو أخرى، حتى وجدتُ نفسي أقف عارياً تماماً أمام امرأة أشعر فقط أنني أعرفها، لكنني لست أعرفها ولستُ متيقّناً تماماً. لكنّ لي حدساً غريباً أسمعه يهمس لي: "أنتَ تعرفها "، فأطمئنُ قليلاً.

         - " لا تستحِ، سأحاول الإنتهاء سريعاً، لا تستحِ يا عزيزي" ثم أردفت: "هذه بيجامة تحبّها، تبدو أنيقاً فيها" ثم أخرجت رأسها من الدولاب ونظرت لي " يجب أن تبدو أنيقاً الليلة، حسناً؟"
         - " حسناً "، بكل قلق، ورغبةٍ في الهروب من الإصطدام بعينيها، قلت " حسناً".

 لا يستحِ الشبّاك من بلله، فلمَ أستحِ أنا؟! وطرقعت قطرات المطر أصابعها على طبلة أذني، وظلّت تتكرر في نغمٍ صاخبٍ اعتدته فتلاشى معه إدراكي للأصوات حتى انتهت السيدة من تطويق جسدي ببشكير مبتلّ له رائحةٌ زاكيةٌ أشبه برائحة الياسمين لتمسح عني زناخة البول، ثمّ بدلت لي ملابسي ببيجامة جميلة.

قالت وهي تشيح ببصرها بعيداً ملتهية بجمع الملابس وترتيبها فوق بعضها:
         - " أعلم أنك لا تتذكرني، لكنّني أتذكرك"
أردتُ أن أخبرها أنني لا أستوحش ملامحها، على العكس، أكاد أقسمُ أنني رأيتها في عالم آخر، أو أنني أنا من عالم آخر. لم أتفوّه بكلمة.
         - " ربّما ستعرفني الليلة من جديد يا صغيري، ربّما ستعرفني". خرجتْ وأغلقت الباب خلفها. 

وفجأة، دقّت نواقيس خوف، رنّ جرسٌ لتيه، وصدح آذان هلع، وشعرتُ كما لو أنّ بطلتي الخارقة قد ابتلعتها فجوة دوديّة نحو أزمانٍ بعيدة من خلال ذلك الباب. " من أنتِ أيتها السيدة الياسمينة؟! من أنتِ؟! " تمنّيت لو لم تذهب.

مرّ بعضُ وقت قبل أنا أعي أنّ المطر توقف والنهار انقضى، على الأغلب مضت بضع ساعات ربّما كنت فيها نائماً أو غائباً عن الوعي، لا أعلم. وما لبثتُ أن تمطّعت على كرسييَّ الهزاز الذي وجدتُ نفسي مستلقياً عليه عندما استيقظت، فُتح الباب ثانية، وتقافز من خلالها بعضُ أطفال، كانوا ثلاثة أو يزيدون واحداً، وثلاث بالغين، منهم السيّدة الياسمينة التي بدّلت لي ملابسي في الصباح، بينما رجل وامرأة يبدوان في زهو الشباب الأول، حاملين كعكة مسيّجة بالشموع الكثيرات.

         - " كل عامٍ وأنتَ بخير يا أبي العزيز، أنا كريم"
         - " كل عام وأنتَ بخير يا حبيبي العجوز، أنا بنتك، بسمة"
         - " جدّو جدّو، هابي بيرث داي "

 تنظر لي السيّدة الياسمينة كأنّها تقرأُ كتاباً تحفظه. قالت: " إنّه يوم ميلادك السادس والثمانين يا أبي، كل عامٍ وأنتّ بخير يا صغيري، أتذكرني؟ ".

تقدموا اتجاهي بالكعكة، وراحوا يغنّون أغنية عيد الميلاد بصوت جماعيّ، يتخلل غلظة أصوات الكبار دندنة الأطفال الغير مفهومة. استندتُ بكفّي على السرير، مشدوهاً ومبهوتاً، فانتبهتُ بسرعةٍ للبلل الذي أغرق السرير صباحاً والذي – إلى الآن- لم يجفّ تماماً، لكنّ بقعاً أكبر كانت تحوم في كل زوايا السرير، بقعٌ متكررة وجافة.
نفختُ شمعتي السادسة والثمانون ، ولي أمنية واحدة.


تمّت..


-

186/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا