188: مات وحيداً..

مات رجلٌ بمفرده، لا يهمنّي اسمه، لا يهمني ابن من ولا ما عمله المهم أن إنساناً مات بمفرده في شقّته. لا أحد يستحق موتةً كهذه. لا أحد.

ولا أحبّ أن أعترف بخوفي للموت فيستغلّه، أحبّ أن أدّعي الثقة والقوّة والكبرياء حتى وإن لم أكن ذلك، لأنني أشعر أن الموت يشتمّ رائحة الخوف بدقةِ حاسمة كشمّ الكلاب له. وكأنه قادر على قنص المنتظرين والمترقّبين والقلقين والهلعين في أيّ وقتٍ شاء. إن معايشة الوحدة، وأعلم أنه تعبير غريب ومتضاد إلا أنّه واقعيّ، نُعايش الوحدة فتُصبح هي الشريك الوحيد لنا. وتعايشنا هي الأخرى، حتى تقضي علينا.

أعرف أن هذا الشعور أعظم خوفٍ لدى هذا الجيل، الوحدة. لأن أحداً لا يملك من وقت يومه ثلث ساعةٍ لنفسه، فما بالك بنفس الآخرين! العجلة مُسرعة بشكلٍ جنونيّ، فيغدو كل واحد بمفرده في نهاية كل يوم، تتكالب عليه أحزانه ولحظات الونس خلال اليوم لتُذكّره بواقعه، الونس طوال اليوم لا يعني الونس في الليل. عزيزي، هذا واقعك، هذا سريرك، تتقلّب فيه كيفما تشاء لأن لا أحد يتصارع معك على مساحته فيه.

في الغربة تسمع جملة " مات في شقته لوحده" كثيراً، كثيراً لدرجة تجعلك تعتاد الأمر كأنّه جزء من جرنالك الصباحي. لي صديقةٌ مات عمّها في شقّته في الإمارات والتي اعتاد أن يعيش فيها لعشرات السنين، لكن كعادة المصريين، تعيش الأمهات مع الأبناء في مصر، ويلعق الأب المرّ في وحدته وضغط العمل، حتّى وإنّ وفّر المال والحال اليسير إلى أنه لا يجد من يحكي له عناءه في الليل، ولا يجد فرصةً للتنفيس عن غضبه وحزنه لأحد، ولا حتّى قبلةً مسائية ناعمة. بعد كل هذا نتفاجىءُ ما زلنا بهذا الخبر " مات في شقته لوحده " كأنّ الذي مات له قلبٌ من أسمنت وأكتّاف شيّالة. الحياةُ لا تُشبه الوحدة ولا تتناسبُ معها ولا ترادفها. الوحدة ليست مساحتك الشخصية الهادئة في خضمّ اليوم، هي اليوم وهذا هو شعورك الدائم فيها.

فإن كنت تملك فرصةً لأن تُزيح عن أحد وحدته فلا تتردد، وإن كنت لا تملكها فلا بأس، لا تحمل الذنب على كاهليك، فالحياة لا تنتظر والحياة لا تسمح بالرأفة على الجميع على كل الأحوال. فانقذ نفسك كما ستنقذ الآخرين..

-

188/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا