215: فراشةٌ تتعلم الوصول..

اخترتُ تأجيل كتابة تدوينة البارحة حتَى صباح اليوم لأسبابٍ عدّة، أغلبها أنني كنت متعبة بشكل غريب، وأهمها أنني أردتُ الكتابة في الباص، أو السوپرچيت كما نسمّيه في مصر. لا طالما راقت لي فكرة أن تشهد عليّ الأمكنة المختلفة وأنا أكتب. أعتقدُ أن السبب يعود لحبّي العظيم للتوثيق، والذي بالمناسبة لم أعرف له مسمّى واضحًا إلا بعد استماعي لبودكاست الكاتب أحمد خيرالدين. عندما قال "هوسي بالتوثيق" شعرتُ أنّه سمّى أحد الأمراض المُصابة بها. أعني، ما سرّ حبّي الشديد لإمساك الكاميرا وتصوير ڤيديوهات عشوائية وغير عشوائية، ما سرّ بحثي عن النُسخ الأصلية لكل شيء، حتّى المجلّات. ما سرّ تدويني لأفكاري على هامش الكتاب الذي أقرؤه، ولمَ شعرتُ برغبةٍ في كتابة يومياتي وأن ابنة السبع سنوات. " هوسٌ بالتوثيق"! شُخّص مرضي.

وذلك يأخذني للصفحة الأخيرة من كتاب خير " بعلم الوصول"، والتي بمجرّد أن أغلقتُها أصابني  شعورٌ شخصيّ بالوصول، لكن الأهم هو شعوري باللهفة المتقدة للمزيد. أريدُ أن أعرف ماذا حدث لكل هؤلاء، ولكل الذين ارتبطتُ معهم دونًا عن الباقيين، وكأنما تشابكت أرواحنا في شبكة حريريّة زمنية غزلتها صفحات الكتاب.

في كل مرة، يهبش التوثيق تساؤلًا خامدًا في ذاكرتي، لمَ الموت؟ لماذا نموت؟ ولماذا يموت كل هؤلاء؟ وما الحكمة في أن يبقى رفاتهم ونعيش نحنُ لنشهده ثم نموت فلا نشهدُ شيئًا بعده، لكن يشهدنا آخرون، وهكذا حتّى آخر الزمان. ولمَ ثمّة آخِرٌ للزمان؟

تخيّل أن تجمع رسائلًا سافرت عبر السنين لتصنع منها كتابًا فينتهي الأمر بالكتاب عملًا تاريخيًا مجتمعيًا عاطفيًا في لقمة واحدة. وكأنّ كل شخص كان يملك رواية واحدة على الأقل في حياته. كل شخص في هذا الزمان كان بإمكانه أن ينسج رواية فقط إن كان يملك وقتًا أو صبرًا لتوثيق حياته. كم روايةً كان من المفترض أن نقرأ إن حدث هذا؟!

عرفتُ مؤخرًا أن عز الدين شكري فشير كتب باب الخروج بشكل يوميّ في الجورنال. وبدا لي أنّه لم يكتب رواية فحسب قدر توثيق كتابتها كذلك، فصفحات الجريدة مُعلّقة في الغرفة، والرواية في كتاب -أينعم يصعب الحصول عليه هذه الأيام-، والكاتب بذاكرته يملك تجربة فريدة من نوعها.

رُحت أتأمل المدوّنة، حتّى وإن لم أُصبح كاتبةً يومًا ما، لكنني كتبت، كتبت مئتين وخمسة عشر يومًا حتّى اللحظة، ربّما يجدهم أحدٌ كخيرالدين، يقرأُ سطرًا، يمسّه فينقله في كتاب، لأُصبح كاتبة بعد أن أنتهي من هذا العالم. فكرة دافئة رغم عدميتها. و مغرورة كذلك. وربّما لا يصل أحد، ولا يختارها ولا يقرؤها أحد، وأذهبُ باتجاه الريح فراشةً بنيّة تنبّؤ الناس بحضور أرواح أحبّائهم. وهذه فكرةٌ دافئة كذلك.

-

215/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا