229: لم يحتمل البكاء

كان يصرخُ قلبه لشدة الألم، ثمّ يسمع صوتًا غليظًا يخترق بكاءه: "ما أسمعش نَفَسك" ثم يُتبعها بنفاذ صبر:" ما تعيّطش ".

لا طالما أثارت حفيظتي جملة " لو شفتك بتعيّط هضربك "، وكأن البكاء فعل تحكمّي وليس انفلاتًا للمشاعر. لماذا يُضرب أحدهم على شيء لا يملك التحكّم فيه؟ ولماذا عندما ترى دموعًا بدلًا من أن تُطيّبها تًعاقِب عليها؟ الفكرة نفسها تحمل من الخلل والإهتراء ما يكفي لإسقاطها من ارتفاع ألف كيلو متر من برج العقل.

رحتُ أسير باتجاه عيادة العِظام، أردتُ أن أشاهد المشهد القاسي لكن دون قسوته، وارتطمت نظرتي بوجه الأمّ التي كانت تحيد بعينيها عن المشهد، أنا أعلم أنها تكره هذا الدكتور الآن وتحبّه في الوقت ذاته. كان الطبيب يُمسك قدم الطفل والممرض يثبّته، ووالده يقوم بالدور نفسه، والطفل يصرخ بشكل هيستيري حتى شعرتُ أن صدعًا ما انشقّ في قلبي من شدّة تألمه.
الأم التي كانت تختلس النظر بين الحين والآخر وسط سيل من الدموع لم تكن تملك وجهًا للحبّ غير هذا، بينما الأبّ العفيّ، الذي على ما يبدو كان فلّاحًا مُشقى، لم يكن يجد من الحبّ في قلبه سوى الجملة ذاتها " ما أسمعش نَفَسك "، هكذا استطاع أن يعبّر عن حبّه، لأنّه لم يتحمل شعور العجز القاتل الذي جعله يقف في غرفة يشاهد فيها عظام ابنه تُرد لمكانها دون أن يملك حلًّا آخرًا سوى الإنتظار.

إن الخلل الذي نشأ عليه الرجل المصريّ، أو العربيّ في العموم، جعله لا يستطيع مجاراة الحبّ، رغم أنّ الحب شعور مغزولٌ بالضعف إلا أنه قويّ وضخم وأكبر من قدرة الإنسان على التحمّل. وهو لا يريد أن يظهر ضعيفًا أمام ابنه، فيقسو ليعلمه القسوة، وليعلّمه أن الحب "للنسوان" بينما الرجال، دعنا نقول "تُزوجهم أمّهاتهم" لأن لا وقت هنا للحبّ. إنّ هذا الوجع يُفاجئُه وهو الذي لا يبكِ لشيء ودموعه أغلى من الماس، وتلك لحظة إدراك قاسية تُترجم إلى القسوة.

أنا التي لا أملك أي رابطة دمّ بهذا المريض، لم أملك من الشجاعة ما يكفيني للوقوف عشر ثواني، لكن اجتاحتني رغبةٌ شديدة في أن أضمّه، وأضمّ أمه.

-

229/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا