259: علّمتني رضوى، بالغياب..



ما دفعني لركوب الميكروباص بعد أن اكتشفت أن ميعاد السوبر جيت قد فاتني بالفعل لأنني لم أتمكّن من الإستئذان مبكّرًا من العمل هو شعوري المفعم بالندم عندما سمعت بخبر وفاة مريمة الأدب رضوى عاشور قبل بضع سنين من هذه اللحظة.

لن أُكرر هذا الشعور مرّتين، سأمَهّد لنفسي كل الطرق وسأهوّن على نفسي كل التملّص والإجابات الملتفّة على نفسها، سأذلل أرق الطريق الطويلة وجلد الذات، سأفعل كل ما في وسعي حتّى لا يعتريني هذا الشعور مجدّداً.

وقفت لأسأل إيمان مرسال سؤالًا مُكررًا لكنني بالفعل رغبتُ في إجابته، أخبرتها: "لأنّ حيواتنا ربّما تلامست في نقطة ما، أنتِ من المنصورة وأنا قادمة من دمياط، أودّ أن أسألكِ ما الذي تغيّر في إيمان مرسال، هذه الفتاة القادمة من المنصورة حاملة أحلامها إلى القاهرة، وإيمان مرسال التي تجلس اليوم أمامنا؟" فقالت باقتضاب صادق: "صدقًا، لا أعرف". لكنّها شُدهت بحقيقة أنني قدمت من دمياط لحضور حفل توقيعها، فنظرت بامتنان وهي تُحيد بنظرها لمقدم حفل التوقيع الذي كان بالمناسبة صديقًا لها، ثم عاودت النظر لي، وقالت: "شكرًا ليكِ".

الحقيقة هي، شكرًا ليكِ أنتِ يا إيمان، لأنّك ساعدتيني ألّا أشعر بالندم، ساعدتيني أن أشهد واحدة من كاتباتي المفضّلات دون أن يسرقهم الوقت منّي، ساعدتيني أن أرى كتابي المفضّل يتحدث على هيئة روح.
لم أفكّر كثيرًا عندما رغبت في الحضور، لأنني أعلم الآن أنني ما حضرت لإيمان مرسال الإنسانة، فأنا لا أعرفها على صعيد شخصي، بل حضرتُ لأنني رغبت في مواجهة واحد من كُتبي المفضّلة، رغبت في مقابلة صفحاته وحكاياه وكواليسه. إنّ اللحظة الثمينة التي تجعلك في مواجهة هذا العقل الذي دمج الأفكار كلها وركض خلفها وهذه اليد التي سطّرت أحرفه وجمعته بكل آلامه وصدقه هي لحظة تُشبه الغروب والشروق، فيغرب عنك ما تخيّلته ويشرق لك كل الواقع. والذي كان في حالة إيمان مرسال شروق بديع، بسيط وصادق.

اليوم، بعد أربع سنوات وواحد وخمسون يومًا، مسحت عن نفسي بعض الندم يا رضوى، أنتِ التي علّمتني -بالغياب-، ألّا يكون الغياب هو معلّمي الوحيد. وألّا أنتظر حتى يسرق الوقت كُتّابي المفضّلين، وصنّاع الموسيقى الذين أحبّهم، والممثلين الذين تأسرني أعينهم والأماكن التي تلاحقني في الحلم، حتّى يُصرّح لي العالم بالموافقة. أحيانًا يجب ألّا أنتظر أحد لأكون أنا، وأحيانًا يجب ألّا أن أستجدي الرضا لأكون راضية عن نفسي، تمامًا كما أنا الآن.
فشكرًا لكِ، دائمًا وفي كل زمن، وفي أي مكان كنتُ وكنتِ. شكرًا.


-

259/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا