274: قصة: عيوني في هذه اللحظة *


استغرِب. لمَ انتهت اللحظة التي تجمعنا وأنا ما زلتُ أنا! أقفُ كل صباح مُستندًا إلى البوابة الحديدية للعمارة كالهائم على وجهه بانتظار أن تتمختري على السلم المتهالك، على ظهرك حقيبة وفي وجهك ابتسامة لا تُنسى. استغرِب لمَ تحوّل الكون دون أن يُنذرني أنني بصدد مواجهةٍ خاسرة مع الوقت. بتّ استيقظُ صباحًا كالمغدور، كأنني مطعونٌ في ذاكرتي، أشكّ في كل ما رأيته بأم عيني، وفي كل ما كان لي منك، وفي كل ما كنتُ عليه قبلًا، ثم ما ألبث أن أطمئن، لستُ مغرورًا هذه المرّة، أعلمُ أنكِ كنتِ بين ذراعي، وأعلمُ أنّك أحببتني، وأن السلّم المكسور كان سبيلك للوصول. تعثّرتِ فيه صدفةً أليس كذلك؟ لا أُصدقّك. لن أُصدّق الجميع. أنا أصدّق نفسي.

أليس هذا صوتُ أم ليث؟
بلى.. يبدو صوتها.. دائمًا ما تصرخ هكذا، أودّ لو أطرق رأسها في حائط الغرفة، أكون أحيانًا على مسافة متساوية منها ومن الحائط فتنظرُ لي، ثمّ لسبب لا أفهمه أتراجع. هي لطيفة، ولها نَفَس في الطبخ عجيب، أتدرين أنّها أطعمتني شيش برَك في عيد ميلاد ليث لا أنساه! كنتُ سأجلب لكِ بعضًا منه حتّى رأيتك في الحفلة. حزِنت. لا لأنني لم أكن رفيقك رغم أحقّيتي، بل لأنني أردتُ أن أطعمك منه فحسب.
الآن، سأصفق الباب خلفي. أنا لا أرحلُ، أنا أنتزع نفسي منكِ كمن يزيل وشمًا، لا داعي للألم ولا داعي للخيبة، هذه فرصتنا للنهوض من هذا المكان المجحف البارد. استغلّي تأثير الكيمياء على جسمي وقومي، انزعي عن فمّك كمامتك واهربي منّي. أعلم أنني عندما قبّلتك لم تصفعيني؛ لأن خوفك المعهود هو ما تهاوى على وجهي دون حول مني ولا قوة ولا حول منك ولا قوة. هاتي راحتيكِ يا حبيبتي أقبّلهما لأعتذر لكِ عن خوفك وعن خوفي. أنا لستُ ( زعلان ) رغم أنني غاضب، وأعتقدُ أنّه يجب علينا أن نحاول، نحاول ألّا نحاول ربّما، أقصد، ربما يجب علينا أن نحاول معًا. لا تدفعيني وكفى. تعالي نحاول.

لطالما أحبّني عمو سامر، عاملني كأنني من دمه فيأخذ من جيبه الدنانير ويناولني بعضًا، دخّن معي السجائر وهو ينتظرك أمام بوابة العمارة في الليالي المتأخرة والمزدحمة بأصدقائك المُزعجين. " بِدهاش تُدرس يا عم أحمد، بِدهاش. كاينة تتمختر مع رفقاتها طول الوقت، إيش أعمل معها؟! زعرانة هالبنت، بس بحبها" وتشاركنا الضحك. وأنا أيضًا أحبّها يا عمو سامر.. أنا، أيضًا، أحبها..
 لكنّهم لم ينفكّوا عن إخباري أنني موهوم، أنني لستُ حقيقيًّا. لم يتوقفوا لحظةً مذ أدخلوني عنوة عن حشر هذه المهدئات في فمي، ولما شعرتُ بالخدر ظلّت الممرضة تبحث عن شريان واضح لتدبّ فيه إبرتها العزيزة، لكنني قاومت، قاومت لأنني أعرف جيّدًا أنّهم سيُحاربوني بكل هذا الكره، فكيف لهم أن يزيحوا قافلة العشق الذي بداخلي دون أن يكون لهم من الغضب والكره قافلة مثلها! يريدونني أن أعود مُهمّشًا، صفّ ثانٍ في حياة تعجّ بالصفوف، كومبارسٌ بسيط يعدل ياقة جلابيته بينما يكون الجميع نجوم شبّاك، يريدونني أن أظل الإبن الأوسط، لا أنا البكر ولا حتّى آخر العنقود، يريدونني أن أصدق كذبهم وهراءَهم وتراهاتهم عنكِ، يقولون –جورًا- أنكِ لم تحبيني يومًا وأنكِ خائفة، وأنّه يجب عليّ أن أبتعد عن شمس صباحك، وأن أتوقف عن زيارة كوابيسك كل ليلة، وأنكِ خائفةٌ فعلًا منّي. منّي أنا! يقولون أيضّا أنكِ تبكين كثيرًا لإنّك ما عدتِ قادرة على الذهاب إلى المدرسة، ولا حتّى البقاء لوقتِ متأخر للسهر مع أصدقائك. يقولون عليكَ أن تستجمع شتات نفسك وأن تتناول الدواء، وأن تسيطر على هلاوسك، وأنك لست من نسلِ نبيّ الله يونس على الإطلاق. يقولون أن عمو سامر لم يحبّني، ولم نتشارك أنا وهو علبة سجائر واحدة يومًا، وأنّه يُدخّن السيجار وحده في شرفة شقتّكم. يقولون أن أم ليث لم تعد تفتح لي باب شقّتها منذ شهور وأنّها غيّرت القِفل مرّات عديدة ولم يُعد يُسمعُ لها حِسًّا. يقولون أن والدي في مصر ما عاد يعرفني، تخيّلي أن لي والدٌ في مصر أصلًا؟ فمن عمو سامر إذّا؟ أعلمُ أنّ هذه الكمّامة تمنعكِ من الردّ لكنني لا أبحثُ عن ردود في الأساس، أنا أعلم ما أنا. ورغم كل هذا لم يكن أيًّا مما قالوه قاسيًّا سوى قولهم بأنني أحمد عادل السماحي، بوّابٌ مصريّ من الريف وأنك لستِ حبيبتي.
-


* لوحة " عيوني في هذه اللحظة
" – “ My Eyes at the time of revelation “رُسمت ما بين (1911-1913 ) للفنان الألماني أوغست ناترر ( 1868 1933)، والذي عانى من الفصام.

-

274/365



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا