293: مراجعة: هل يبقى الأثر؟
" مرت بي تلك الرعشة التي تهزّك عندما تقابل شخصًا تعرفه طوال حياتك، ثم تجد نفسك معه فجأة في نفس الحيّز والوقت. إنّها رعشة الحضور الطاغي للمعرفة من طرف واحد، ورغبتك في أن تتوازن، ألا تكون أحمق وألا تستنفذ طاقتك في عدم تصديق ما يحدث".* هذا ما شعرتُ به عندما قابلتُ إيمان مرسال للمرة الأولى في حفل توقيع كتابها " في أثر عنايات الزيّات" والذي عرضَ دون اصطناعٍ للحزن ولا نبشٍ أجوف في الذكريات قصة كاتبة، انتحرت قبل أن ترى عملها الأول. ماذا سيخطر في ذهنك عند قراءة هذه السطور، " كاتبة انتحرت قبل نشر كتابها الأول" ؟ أعلم، لكنك لن تكون في مواجهة " كتابة صعبانيّات " ولا حتّى قصة مجرّدة عن كاتبة ما، أعتقد أنك بصدد قراءة " بالطول والعرض"، عملت فيها إيمان مرسال على أخذ شريحة عرضية شفّافة للمجتمع، تعمّقت في شتى الزوايا دون أن يفلت منها عمق واحد، تحدّثت عن التاريخ وعن الأرشيف وعن " نخبة الأدباء" في الستينات وما بعدها، تحدّثت عن القبور والتفاصيل والشوارع، عن القاهرة، بل عن قاهرتين (قاهرة عنايات وقاهرة إيمان)، عن الإضطراب والكتابة والوحدة، تحدّثت عن مهاتفات ولقاءات مستمرة وعن لقاء مهم لطالما انتظرته، أمام شاهد عنايات.
نشأت علاقة إيمان بعنايات -كما ستعرفون- بمحض الصدفة في سور الأزبكية، تغلغلت إيمان فيها من خلال رواية عنايات الأولى -والأخيرة- " الحبّ والصمت"، فبدأت معها رحلة تتبع الأثر، رحلةٌ غنيّة تجعلك تؤمّن في الصفحة الأخيرة من الكتاب على: كم أكاديميّة شاطرة وكاتبة عذبة هي إيمان مِرسال !
أمّا عن علاقة عنايات بكايمر، وهو ما كان من المفترض أن يكون شخصية روايتها الجديدة التي لم تسمح لنفسها أن تُكملها، فتتشابه وعلاقة إيمان بعنايات، بدا لي في كلتاهما تتبع للتاريخ، وكأن ما نادى لإيمان بالبحث عن عنايات هو ما نادى لعنايات بالبحث عن كايمر، ورغم أن الغايتين مختلفتين، أعني إحداهما مشروع رواية والأخرى تلبية ما بدا نداء من عالم بعيد، إلا أنني أعتقد أن النتيجة واحدة، أو أنّها توحّدت في الكتاب. أثناء رحلتك مع الكاتبة، قد تشعر أنّها سعت لإستكمال مسير عنايات في رحلة بحثها عن كايمر، وكأنّها أرادت أن تُرسل لها لحظة طمأنينة: أنا أكملتُ عنك ما بدا أنه سيظل معلّقًا للأبد.
الكتاب عمل أدبيّ أرشيفيّ، كتبته صاحبته بسلاسة كأنّها تتقافز على صفحة ماء، وبعمق كأنها تُغرقك معها لظلامات بعيدة في شخص غدا ذكرى منذ أكثر من خمسين عامًا!
فماذا أنتَ بفاعل أمام هذا الكتاب؟! أعتقدُ أنّه لا يحتاجُ إلى القراءة فحسب، بل ربّما يحتاجُ إلى التأمل.
-
فماذا أنتَ بفاعل أمام هذا الكتاب؟! أعتقدُ أنّه لا يحتاجُ إلى القراءة فحسب، بل ربّما يحتاجُ إلى التأمل.
-
*صفحة 94 - " في أثر عنايات الزيّات"
-
293/365
-
293/365

تعليقات
إرسال تعليق