173: من ما وراء العدسة

من مميزات شبّاك المشفى الذي أعمل فيه كصيدلانية، هو صُغر حجمه، كأنّه عدسة مُكبّرة لوجوه الناس! فأرى من خلاله بكل دقّة جمال العيون واستدامة الندبة التي في الجبين أو أسفل الشفاه. أرى الخمار والشعر الناعم والصبغة الأوكسجين. أرى بقايا كحل وأرى غمازة شديد البيْن والغزَل. أرى تجاعيد كالخنادق وبهاقٌ جميلٌ وعرق جبين. أرى الأعمى، فلا يراني، وأرى في عيون الشباب الدموية، لفائف المخدرات. كل شيءٍ يبدو مُكبّراً أمام هذه الفتحة التي أسميها رأفةً بها : شبّاك صرف الدواء. إلا أنّها في الواقع فجوةٌ صغيرةٌ ثُقبت من زجاج الحائط.

وفي كل مرّة حاولتُ فيها أن أغض الطرف عن التحديق في هذه العدسة، فشلت. لأنني بالطبيعة أميل للتفصيل والتدقيق والتركيز فيما وراء الحدث، لكن تجلب عليك تلك الفتحة أحياناً آلاماً أو حكايات لا تريد التورط بها. كالمرأة التي شهدتُ انهيار عينيها في شلالات مُفاجئة والتي بالمناسبة كتبتُ عنها في تدوينة سابقة. ودعوني أخبركم بكل سذاجة الحلم واحتقار الواقع، إنّ التورط هو التجربة القاسية !

ووجدتُ أنّ كل التواصل البصري بيني وبين عيون الآخرين هنا إما عزاءٌ لألم، أو طبطبةٌ لعجز الحيلة، أو طوبة أخرى في طول الحائط القائم بين روْحينا. أما أنني للمرة الأولى أجرّب أن يكون التواصل مُبهماً، مُعطّلاً ومُشفّراً.

جاء مريض مرةً ليصرف علاجه، فسألني عن دواءٍ ما ثم تابع " هعمل إيه لما يخلص؟" كانت هذه هي اللحظة التي ظهرت فيها كلابشاتُ الحبس بشكل واضح، فسرقتُ من عيني اختلاسها ونظرتُ له وقلت بكل صدق: " لا أعرف"، فقال " بس أنا مسجون!" ورفع الكلابشات وبالتبعية يد العسكري التي كانت مسجونة معه، أمام عدستي المكبَرة. فلُجم لساني وقلت: " عارفة، بس أنا معرفش فعلاً تعمل إيه" لأنني بالفعل، لا أعرف. 

لذا، برغم التفاصيل والعيون والتواصل، فالعدسة لا تجعل الأمور واضحة دائماً. أحياناً لا تعرف، وفقط!

-

173/365

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

299: يوم في زمن الكورونا

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

10: يوميّات: أم حبيبة وأنا