المشاركات

عرض المشاركات من مايو, 2020

365: خطّ النهاية: حيث ارتاح العدّاء من الركض خلف أحلامه

يتبع.. كانت تمرّ چولي في كل نهار على محلات البقالة والمخابز وبائعي الخضار والفاكهة تبعًا للوصفة التي ستنفذّها من كتاب چوليا تشايلد، بل وتمضي أغلب ليلها تحضّرها، تتبّلها، تتحدّث معها، ثم تتناغم معها في سيمفونية تذوّق شديدة العذوبة برفقة زوجها على مائدة العشاء. في كل ليلة كنت أنغمس في سريري، مرّة كان سريري في الإمارات، ومرة كان في الأردن، ومرة كان في مصر، ومرة كان كرسي الطائرة إيرباص،الطبقة الإقتصادية. مرّة كنتُ أغتسل بالدموع، ومرّة يغشاني الفرح حتّى تتراقص الكلمات على طرف لساني فلا تنطلق، مرّة على يخت في شاطىء العقبة، تمامًا في مقدمته والشمس أمامي، ومرّة في مقهاي المفضل في دمياط، مرّة في سيارتي مُغلّقة النوافذ تمامًا في شتاءٍ بارد لأمنع عن أذني صوت أصدقائي وضحكاتهم الصاخبة، مرّة وأنا شبه نائمة، ومرّة وأنا أجلس بكدر خلف مكتبٍ بالٍ في صيدلية بائسة تابعة لمشفى حكوميّ، مرّة كتبتُ على أريكتي أتوسط شعاع الشمس لأسدّ عليه منعطفه فيضطر أن يمر خلالي، مرة وأنا أتأمل إيمان مرسال تتحدث عن عملها، مرّة في السوبر جيت في تمام السادسة صباحًا أغالب النعاس، ومرّة وأنا أفكّر فيك كالعائدة من الأنقاض. ...

364: ليلة الوقفة..

منذ اليوم الأول، وأنا أستبعد اليوم الأخير! ورغم أنّ عامًا قد مضى بسرعة، إلّا أنّه مضى كتِرس صدىء يلفّ في قالبه آخذًا معه الدقائق على مهل لا تستسيغه نفسٌ تتحرّق على لهب العجالة وبرودة السلام. كما تعرفون، في المرة الأولى التي شاهدتُ فيها فيلم Julie and Julia أخذني انضباط چولي للحلم والحبّ، قلت في نفسي حينها: يا للهول! كيف لها أن تُلزم نفسها، -بنفسها- وهي تعلم أن لا أحد يعرف من هي وما تريد أن تفعل حقًّا، الإنتماء لأمر ما بمنتهى الإنضباط والجديّة؟ كنت أجلس في الصيدلية التي كنت أعمل فيها في ذلك الحين، وكانت تتوسط مولًا صغيرًا، وبينما أنا في لحظة هدوء عابرة أفكّر في brownies bites- قطع صغيرة من البراونيز يتقنها مقهى أمامنا، اعتراني حنين مُفاجىءٌ للفيلم، وقررتُ: عندما أعود الليلة، سأشاهده مجدّدًا. ولأنني كنت أعاني من حزن شديد وغير مبرر، وتعبٌ مضاعف للقيام بعمل لا أحبّه، غططت في نومي قبل أن أصل لنهاية الفيلم، ورغم ذلك، أكملته في وقت استراحة الغداء في اليوم التالي. هكذا ظلّت الفكرة تراودني لأشهر.. توالت الأحداث فالقراراتُ المجنونة فالحياة، وتمامًا بعد ورشة الكتابة التي أنهيتها في إبريل ا...

363: أحجية إلّا...

في ليلة الثالث والعشرين من رمضان، يصعب عليّ الحديث عن مشاعري، يقولون أن الله قد يتنّزل الليلة للسماء إن كانت ليلة القدر، وأنا بكل صدق أُصرّ يا رب على دعائي، نعم إنه هذا الدعاء الذي سمعتني أتلوه ليلة بعد ليلة، لم يكن لي دعاء واحد وحيد إلى هذا الحدّ من قبل لكنني لهذه المرّة أدعوك أنا العبد الملول، فانظر إليّ إن كنت ستكون اليوم في سمائنا حقًّا، وقُل لي: "أجبتكِ". " أحيانًا، يصعب عليّ بلع ريقي، لكنّها في حقيقة الأمر كلمات تحاول شقّ حنجرتي للخروج"*، منذ التدوينة السادسة وحتى التدوينة الثلاثمائة وثلاثة وستون وبلع ريقي يغدو عملًا شاقًا. فلتكن تلك آخر تدويناتي، لكنّها لن تكون آخر محاولات كلماتي للخروج. متى سيكون هذا اليوم الذي تتحوّل فيه أحلام اليقظة والسيناريوهات المحتدمة التي تدور في رأسي جزءًا من الواقع؟ أو -للدقّة- جزءًا ممَ سيصبح ماضيًا! إلى متى ستظل الشجاعة قطعة مفقودة من أحجيتي، إلى متى سأظل أتلوّى على ما مضى من عمري، وأتلوّع على كل ما قد كان له أن يكون لي فلا أقول له: كون لي، إلى متى ستظلّ هذه الفتاة المسالمة وجهي الذي أرى به العالم، دون أن أن أكشّر عن أنياب قطّة غا...

362: " لشو اشتقت؟"

لم أتخيّل يومًا أن تتقاطع المدوّنة مع جائحة عالمية جعلت من الثلاثة أشهر الأخيرة منها مدونة منزلية الصنع بإمتياز. وأعتقد أنني خلال الفترة الماضية لم أتحدث بشكل مباشر عن الأمر. أعتقد أنني لا أحبّ أن أتحدث عن أمور ما زالت قيد التحميل، وكأنّ الصورة لم تكتمل بعد، أو أنني غير قادرة على جمع الخطوط المبعثرة، لا أعلم. حتّى أنني عندما أفكّر في هذه الفترة الغريبة، لا أشعرُ بالغرابة حتّى. البارحة رأيت مقطعًا على إنستاجرام بعنوان " لشو اشتقت؟!"*، وكان الردّ الذي شابهني الأكثر: " صراحة.. ولا إشي". أريدُ أن أحكي لأولادي -ده لو كان فيها أولاد يعني- ماذا عايشنا؛ ولا أعنِ بذلك صعوبة الحياة أو وحدتها، لكنني سأحكي عن هؤلاء الذين كلما رفعنا رؤوسنا للتنفّس قليلًا أغرقونا في شبر ماية. عن هؤلاء الذّين لم تُجبرهم أعمالهم على النزول ولم تُجبرهم عائلاتهم على زيارة السوبرماركت أو شراء الخضار، لكنّهم قرروا "إنّه كفاية كده، إحنا زهقنا". عن هؤلاء في كل عصر وزمن، الذّين لم يقدروا على ضبط رغباتهم ليستمرّ الجميع في جحيم أبديّ! هذا ليس تنظيرًا، ولا اتهامًا، لكنّه رجاءٌ حقيقيّ، بأن تتوقفوا ع...

361: هرتلات ليلية بامتياز..

أحبّ أن تكون الكتابة انعكاسة سمائي على مرآة جانبية لسيارة، لكنني إلى الآن أتقن معاملتها كورقة منزوعة من كتاب مدرسي لملىء الفول المملح واللب السوري. في نومي المتأخر كالعادة، أفكّر فيمَ بعد المدوّنة؟ أعني، ليس سهلًا أن تتوقف عن القيام بشيء اعتدته لمدة عام. فماذا بعد؟! أخاف أنا أخسر الشعور المُصرّ عليّ بالكتابة. وأخاف أن يعتريني التكاسل والتثاقل على الحرف حتّى أُهجر كحديقة باردة. قبل أن أكتب ما قرأتم كنت أفكّر في كتابة أخرى، شيء يمكن له التعبير عنّي من خلالي، كتابة تشبه تلك التي تحتاج شجاعة قصوى للتحلّي بها، ها أنا أعود إلى غموضي المعتاد، تترجّاني أمي للتخلي عن بعضه، أقول لها دون مبالغة: " بجد مش عارفة". أحبّ دائمًا أن أُفصح عن الأمور بعد أن ينتهي معادها، فقط كي لا تُلاطمني أفكار ومخاوف حول فقدانها، وأحبّ دائمًا أن أكتب بعد أن ينتهي وقت الشعور، فيظهر العقل على خشبة المسرح. هل أريد أن أغيّر ذلك؟ أحيانًا.. " بجد مش عارفة". في العمل، يكون الجميع مستيقظين سواي، ورغم أنني أرى بالبصيرة الناجية من التجارب القاسية سببًا للهروب في النوم، إلا أنني أستغرب طاقاتهم المتّقد...

360: على مرّ السطور..

 " فصل الطالبان في موقعة الحضن "، قرأتْه في أحد العناوين المنشورة على صفحة ما في الفيسبوك. اغتاظت فتجاوزت الخبر. " أحبك منذ الأبد، وتحبني منذ الأبد، لكننا لن نلتقيَ، للأبد. " دوّنتها في دفتر صغير بقلم أزرق جافّ، دوّنت التاريخ، ثم لفّت المطاط على الغلاف، وتركته في حقيبة يدها. " اللي بيفهم بيريّح " قرأتها على ظهر ميكروباص مرّ لتوّه أمام بوابة الجامعة. رنّ هاتفها، بحثت لوهلة عن مصدر الصوت في حقيبتها المتعبة، نظرت في شاشة الهاتف، " 020 "، لم ترد؛ لأنها إن أغلقت الإتصال سيعاودون الإتصال بها، وإن استمرّ في الرنّ ربّما تجلس على هذا الرصيف لتنهار في بكاء هيستيري. " سباك: 01000105236 " وجَدَتها للمرّة الأولى على امتداد سلّم الدور الثاني، واستغربت كيف لها -وبعد هذي السنين- ألّا تلاحظ خطًّا سيئًا كهذا! " أحبّك منذ الأبد، وتحبّني منذ الأبد، لكننا مع الأبد، لا نلتقِ ". بدّلت ترتيب الكلمات وغيّرت بعض الحروف. لا تشعر بالرضا ما زالت. " كائنٌ لا تُحتمل خفّته "  نظر إليها من مكتبتها المُضحكة التي صَنَعتها بنفسها على ال...

359: "صاحب بالين كدّاب": مواجهة ذاتية

ثمّة مدوّنة تنتظر في خانة المسودّات منذ أيام. أقول غدًا سأجلس أمامها بكامل تهذيبي، وأبذل جهدًا لكي تُكتب كما أريد لها أن تكون، ثم ينتهي اليوم في دقائق حتى لا أكاد ألبث أن أضيف لها سطران أو ثلاثة. ترنّ في ذاكرتي جملة عمر طاهر: " الكتابة شغل. كون وفي ليها هتكون وفية ليك"، وأنا كالخائنة. صباحًا أكون في المستشفى، ظهرًا أكون في المطبخ ومساءً أكون أخطبوط، أقرأ وأكتب وأراسل أصدقائي وأتصفح الإنترنت بكامل مللي كأن لا مهام تنتظرني. " صاحب بالين كدّاب" يا بابا، أعرف ذلك. ولكنني أحاول أن أتحدّى طاقتي، أن أتغذّى على الشجاعة الرمزية التي أملكها، أحاول ألا أتملّص من مسؤولياتي كأفعى تتخلى عن جلدها، أحاول، ومع حلول كل ليلة أكتشف أنني تعبت. إما أنني أصبحت أكثر هشاشة وأما أنني أخطأت تقدير ذاتي. لستُ أخطبوطًا، أنا على الأغلب سردينة مُعلّبة. عندما تحتدم الأفكار، أغمض عيني وأتخيل أنني أدلل رجلي في بحر شديد الزُرقة، له نسيمٌ بارد وصوت مهيب، ورملة بيضاء حريرية، أتخيل السماء قريبة والنجوم تُداعب خدودي، أتخيل الأرض واسعة ليس بها سواي، دون أن أخاف الوحدة. أتخيّل أنني ألبس فستانًا حريريًا ش...

358: "أنت في منتصفي وأنا على حافتك"..

كل شيء على المحكّ، "أنتَ في منتصفي وأنا على حافّتك "*. الإستحقاقية كلمة غامضة وغير مأمونة العواقب، وهي التي إن زادت نقصت، انعدمت، بل استحالت. الإستحقاقية كالبوكر، رهانٌ حدّ الإمكانيات وحظّ غير معلوم المصدر وإنقلابة السحر على الساحر في بضع حركاتٍ متتالية. كمْ مرّة هُجر أحدهم لأن الطرف الآخر لعب لعبة الإستحقاقية السخيفة تلك؟ كم مرّة سقط أحد في البطالة لأنّه كان ملائمًا (أكثر من اللازم)! كم مرّة اُستبعد أحدهم من الحياة التي يريدها لأنّه كان الأقرب إليها من الآخرين! كم مرّة! تبدو الإستحقاقية سرّ فشل قيمة الحياة، أن تكون أقل من الحياة هو الضمان لحصولك عليها، وأن تكون أكثر من الحياة هو السبيل لتلقّيك صفعات متتابعة، صفعاتٍ ربّما تودي بك إحداهم أرضًا.. - *: لكاتبته، مروة الإتربي. - 358/365

357: هكذا من اللامكان، ابتسمت..

لمَ سرت بجوار هذه الطفلة؟ ربّما لكي تتسنّى لي اللحظة التي سأنظر لها فيها ثم أبتسم. تُربكني اللحظات التي يجتمع فيها غريبين، كأنّ شحناتٍ ما في المكان قد اضطربت، فقدت استقرارها وراحت تتخبّط في كل زاوية، تربكني اللحظات التي تحتار فيها نظرتي إلى أين تستقرّ ويتلعثم فيها لساني إلى أي مدىً يمكن له أن يبتعد وتستحي أسناني إن كان يجب عليها أن تكشف عن مفاتنها الآن أم تختبئ خلف حرجٍ مضطرب. وفجأة تحضر ألف قصة إلى رأسي، وتتلاطم الردود والجمل المناسبة وغير المناسبة، أحاول السيطرة على المعركة، يبدو عليّ ثبات خادع لكنني أرتجف، أقول ربّما لو قلت هذا الآن ستكون اللحظة مثالية، ثم أُخرس عقلي قليلًا وأصمت علّ الصمت كان هو التمهّل المطلوب، وهكذا حتّى تختفي اللحظة وبي نطفة ندم، تتكوّن جنينًا في الدقيقة التالية. منذ ثلاثة أعوام، في قاعة انتظار إحدى المستشفيات، كنت أجلس وحدي، متلصصة من العمل حتّى لا يسألني أحد إلى أين أنتِ ذاهبة، أنتظر أن تنادي الممرضة على اسمي بهذه اللكنة الهندية اللطيفة. لطالما آرقتني كتلة في صدري، ولخلفيّتي الطبية سبب كبير في إهمالي الأمر لأنني أعرف -أحيانًا- متى  يجب علي القلق. ورغم تع...

356: ميلاد المدوّنة الأول..

صورة
هذه المدونة غريبة. نعم. وإنّ جُل ما أخافني عندما فكّرت في تدشين هذه المدوّنة كان انقطاع الكَلم، أن تجفّ مشاعري وأنا أميّل فم إنائي الروحي، أن تتحجر عيوني وأنا أتأمل السماء تركض خلف شبابيك الميكروباص، أن تنتهي بي كل البدايات إذ بدأتْ، وأن تغدو كل النهايات صفحة بيضاء لا نقطة فيها. ما أنا الآن؟ إسفنجة؟ بصيرة قطّة؟ ندب يتفتّح كل شهر كوردة؟ ما أنا الآن سوى بئر، رواية من ألف صفحة، خبزة كلما ارتفعت فقأتها يد الخبّاز. ما أنا الآن سوى ضحكة متحفظة، وقلبٌ به شقوق لا يسدّها المحيط. إن كنت أقف في الخامس من مايو من العام الماضي على برج سكني يخترق السحاب، لأنظر إلى الخامس من مايو من هذا العام، لما صدقت ما أراه الآن بأمّ عيني، لما توقفت عن الإشفاق على نفسي، لما دفعْتُني للإستيقاظ من سريري كل صباح، لكنت توقفتُ عن القيام بأفعال كثيرة حتّى لا أصل إلى حيث أنا الآن. أين أنا الآن؟ لا أتذكّر تمامًا كيف تخيّلت هذا اليوم، لأنني اعتبرته تتويجًا للإلتزام لا المدوّنة، وأريد -رغم كل شيء- أن أشعل شمعة عيد ميلاد صغيرة، حتّى يتسنّى لي -وقبل عيد ميلادي- أن أتمنّى أمنية. اليوم، أشعل معكم شمعتي  الأول، وأُشرككم...

355: إنتاج مطبخيّ لا بأس به..

لن يكون للبكاء هدف إن لم تشعر أنه ينقذك من حزن ثقيل، حزن أسمنتي لا يُشقّقه سوى سيل منهمر من أمطار طوبى. تأبى الدمعة أن تستحلّ نفسها، تتوسط اللحظة بالعرض كأنّها أسطوانة مضغوطة، أقول لها لا بأس عليكِ يا عزيزتي، فأنا كذلك لن أُحلّك، لأنني لستُ جاهزة للحظة ضعف جديدة. اليوم، أبدأ رحلة جديدة لطالما سعيتُ لها، لكن تخيّل أن تأتي اللحظة الجميلة هذه في خضم اعتكافك السرّي على روحك كأنّك انبثقت لتوّك من شرنقة. اليوم كنت سعيدة وخائفة وحزينة، وهو مزيجٌ صنعته عندما كنت في مطبخي -أو هكذا أحبّ أن أسميه لأستأثر به نفسي- أنظر للسكينة الشبه حادة والقطّاعة البلاستيكية، أفكر أأبدأ بتقطيع البصل والثوم أم بتجهيز السعادة والحماسة والهلع؟! وردتي الجورية الوحيدة التي أجففها في المطبخ نظرت إليّ اليوم نظرة غامضة، لمحتها فأدبرت عنها ودُرت أقلب ما على النار، لن أنظر لها فتبكيني، تُلح ذكرياتها عليّ بين الحين والآخر وتكون أحيانًا قاسية. لن أنظر فحسب. اليوم لحظتي، لن أسمع صوت نحيب البصل، ولن أتأمل انكسار الثوم على المفرمة، فأقبلُ بما أجهدتُ نفسي للحصول عليه، بل سأفرح به. عادي، فهذا ما يحدث غالبًا عندما يحقق النا...

354: المرأة التي راقبتها عدسة واحدة لإحدى عشر عامًا..

صورة
نيويورك- 1989 (تصوير: Ted Leyson ) لم أتخيّل أن كتاب " المدينة الوحيدة" سيكون ثقيلًا إلى هذا الحدّ! لكنّه على ثقله مشبّع بالأخبار والأحداث التي أحبّ الركض خلفها. تمامًا كـ جريتا جاربو. إن المرأة التي تتخفّى خلف يديها المعروقتين ونظرتها الواعية لم تكن سوى سيّدة امتهنت التمثيل في بداية القرن الماضي، ثمّ في عمر السادسة والثلاثون قررت أن تعتزل التمثيل وأن تلزم شقّتها البديعة لخمسين عامًا قادمة. ولإحدى عشر عامًا كان المصوّر تيد ليسون هو الباباراتزي الخاص بجريتا، كان ينتظرها خلف الأسوار وفي مواراة من الأشجار حتّى يلحظها تخرج من باب عمارتها القاطنة في 450 شرق شارع 52 بمدينة نيويورك حتى يلتقط لها صورًا عديدة. وعلى رغم محاولات جريتا في بذل الثواني الأولى لخروجها من المنزل في النظر يُمنة ويُسرة، إلا أن ليسون دائمًا ما تمّكن من إيجاد زاوية ما تظهر فيها جاربو، فيضغط على زرار الكاميرا. إحدى عشر عامًا يراقب ويتلصص ويصور! أليس أمرًا جنونيًا! تيد ليسون أكادُ أنظر في عينيه، فأجدُ مهووسًا. إمّا مهووسًا بجاربو أو مهووسًا بالمهنة، لكنني أستغرب هذه الطاقة التي تدبّ في عروقه كل صباح...

353: وابحث عنه..

الكتابة لعبة مراوغة، ليست قطعتا شطرنج، بل نبلة غادرة، أو طائرة ورقية ربّما تطير فوق سقفك وربّما تخدع أصابعك فتؤنس غيرك. لليوم الثاني على التوالي، أفتح هذه الصفحة البيضاء التي آلفتني كما آلفتها، وأجلس أمامها كمن أُصيبت بصدمة، أفقد تركيزي حتّى تكبر البيكسلز* وتتحدّد معالمها وأتوه تمامًا. أغلق شاشة اللابتوب، أغمض عيني، أراجع الأفكار التي دوّنتها مسبقًا، بشكل مضحك لا أتذكّر أغلبها وأنا التي دونّتها بيدي، أفتح دفتري، أعاود قراءتها، أقول بصوتي اللاوعي: " طب والله عاش". أكثر لحظات تورطّي في وسائل التواصل الإجتماعي متعة هي التي يأخذني فيها بحث لآخر، ويسلّمني فنّان لعالِمٍ لامرأة هوى، كلّهم تشاركوا صورة أو حدثًا في الطفولة أو حتى مصيرًا. هذه الشبكة التي تُغزل بسرعة كلما قادك فضولك لرحلة أخرى، هي أشهى ما يحدث في العالم الإفتراضي. يعجبني العالم الواسع في تأمينه على إستحالة الإلمام بالمعرفة، والإتيان على اللحظة المبهرة كلما فقدت اهتمامك بما يحدث حولك.  لا تتجاوز لوحة ذُكرت في كتاب، ابحث عنها، لا تتجاوز كاتبًا ذكر غيره في مقال، ابحث عنه، لا تتجاوز مصطلحًا مجنونًا قرأته صدفة في جريدة، ا...