المشاركات

عرض المشاركات من يوليو, 2019

89: عشوائيّة: " أغمض عينيك وتخيّل"

صوتٌ طفولي يرتّل قرآناً أو يدندن أغنيّة، لم أتبيّنه تماماً من ارتطام الهواء بزجاج شبّاك الميكروباص، لكنّه كان جميلاً وناعماً وهادئاً. ظلامٌ يتخلل مصانع الخشب، ونيرانٌ وليدةٌ تبدو كشعلة أولمبية تحملها أيادٍ منهكة ومتعبة، تُشعلها وتصنع القهوة في آنٍ واحد. وقفٌ خيريّ لمبرّد مياه، صنبوره مكسور، والماء تسري منه إلى الأرض كأنها دموع الحجّاج. باص كبير وازدحام، وجوهٌ كثيرةٌ ووجوهٌ مُنيرة تلبس الأبيض تصعد الباص وسط زغاريدٍ وقبلاتٍ وسلاماتٍ، تلتفّ حول رقابهم أسماؤهم وأسماء حمَلاتهم. زغاريد زغاريد. على حين بغتةٍ، في الإتجاه المقابل، رجلٌ فتح النافذة وبصق في الشارع. المناديل مُهددةٌ بالإنقراض كالزراف كما نعلم! أغمض عينيكَ وتخيّل.. الآن وقد وتّرتْك الظلمة لثوانٍ. ثمةً يدٌ، تمتدّ على الكرسيّ المجاور لي، هل يستند أم يمارس نقصاً ما في آدميته؟ أمهليه ثواني.  السماءُ تعلم جيّداً كيف يمكن لها أن تحطّم الإنسان وتحييه، لأنّها تُذكّره بحلمٍ ما، وأرقٍ ما. رجالٌ كثيرون يجلسون على القهوة يلعبون الدومينو ويتحدثون حتى الصباح لأنّ نساءً بائسات تنتظرهنّ على السرائر، ليناموا بمفردهنّ كل ليلة. طفلٌ ...

88: صوتُ الحبّ الأول، للحبّ الأخير: كلثوميات

كيف بدأ كلّ هذا الحبّ؟  بدأ بالحبّ، بأوّل حبّ تحديداً، هذا الحبّ الذي يحفر اسمه بكل عنفوانيةٍ وجنونٍ كأنّه دقّ المسامير. هذا الحبُ الذي لا يُنسى لذاته لكنّه يُنسى لتفاصيله المُراهقة والمُرهقة. في هذه الحقبة الزمنيّة المجنونة من عمرك ستقع -دون أن تُعي- في صوتها، هذه السيّدة الحكيمة الرزينة التي تُمسك منديلها بدفء وتتزيّن دون مبالغة أو تفاخر إلّا بجمال صوتها. هذه السيّدة الفريدة التي أؤمن إيماناً تامّاً أنّها وحيدة هذا الزمان التي أمسكت صولجان إذابة القلوب بكل حرص، ومارست السحر على كينونتنا دون أن نُدرك، ولا أعلم صدقاً إن كانت تُدرك ذلك حينها هي على حدّ سواء، لكنّه حدث يا " ستّ". فيما قبل الحبّ الأول، سيبدو صوتها ضخمٌ وكلام غنائها غير مفهوم ولا محسوس، ستشعر أنك تجلسُ وحيداً في جلسة للكبار، ثمّ، تحدثُ مصيبتك الأجمل، فتتغير الدنيا، كأن الظلام ينقشع ليُشرق جمالها لعينيك وقلبك. سيبدو كلامها ناعماً، وصوتها كأنّه الكون، تحملك على البكاء عند الفراق وعلى البكاء عند الإلتقاء، وعلى التساؤل، في أسئلة الحبّ والحياة والحرب. كان صوتها المذياع، والبندقية، والشيء الوحيد الذي كاد أن يُجمع...

87: "لا بداية ولا نهاية": الخوف

عُدنا من جديد لحالةٍ من الفراغ الداخليّ، لم أعد أتذوق طعم اللحظات الخفيفة، لكن في فمي طعم يشبه طعم الحديد، هل هذا الدم من فمي، أم نزيفٌ آخر من الأيام؟  في كل صباح، وأحيانا في المساءات الدافئة تجتاحني رغبةٌ عنفوانيةٌ شيطانيةٌ في أن ألملم هذا الفتات وأبدأ من جديد، فلم يشارك أحدٌ بعينه في هذا الهراء، بل شارك الجميع على حدّ سواء، وشارك الجميع بقدرٍ يليق بقدره، وبحجمٍ يليق بعمق وجوده. لماذا أشتهي صوت هبة طوجي الليلة تحديداً؟ " لا بدايةِ ولا نهاية والوقت مارق غريب، متل مروري بأفكارك، لحظة بتلمع وبتغيب!"، دقائقٌ حتى أتذكّر " هدّينا عقارب الساعة خايفين الوقت ليفلّ" لكنّه فلّ. فلّ وترك عقارب الساعة تلتفّ على نفسها رغم خوفنا. الخوف، فكرة مُزرية، فكرة تمدّ جذورها في لحم أجسادنا، لكن لمَ نخاف من الوقت؟ لأننا نعلم أنه مُحمّل بالمجهول، المجهول بُعبع ونحن أطفالٌ بريئون وطيّبون أمامه. الخوف مُزري لأنّ المجهول زاده. هكذا تبقى شجرة الخوفِ متأصلة في روح الإنسان، مُعمّرة بعمره. أعلم أن هذه التجربة تميل للشخصنة التامّة، كأنّها مذكراتٌ يومية بينما هي ليست كذلك تماماً، لكنني أريدها...

86: تدوينةٌ من الشارع، وللشارع..

في تدوينة البارحة حدّثتكم عن البيوت، والحكايا التي أختلقها كلما مررتُ بهم من شباك سيارة أو ميكروباص، لكن لم أحدّثكم بعد عن الناس، الذين أتمّعن في وجوههم كلما حملتني قدماي على المسير لمسافاتٍ طويلة، وأكثر ما أحبّ أن أتمشّى في الشتاء، يجعلني ذلك أن أنفّس عن طاقات مُحكمة الغلق بداخلي، أو عن حزن لم أعبّر عنه حتى اعتقدت أنه مات بينما دفن وهو حيّ. لكنني في أيام النسمات الباردة في الصيف، أثقُ في قدرتي على استكمال المسير، فأسير ما استطعت. خلال نصف ساعةٍ من المشي المنتظم، وصوت ذكرى يغنّي ذكراها " وحياتي عندك، لو كان ليّا عندك خاطر" رأيتُ فتاة بحجم العُقلة، كانت صغيرة وطريفة وزاكية، لم تتجاوز الخامسة، تُمسك كيساً واحداً من السوبرماركت الذي على يميني، وفي كفها الأخرى جنيهات. كانت تحاول بكفها الممسكة بالكيس أن تعدّ ما تبقى لها وبين ما يجب أن يتبقى لها. كانت تسير لا مبالية بالطريق ولا بمن يمشي فيه حتى كدنا أن نصطدم. ظللتُ أقترب منها حتى انتحيتُ أنا في اللحظة الأخيرة لتُكمل مسيرها وهي تعدّ على أصابعها كما كنّا تعلّمنا في الإبتدائية، علّها تطمئن أن ما تملكه في يمينها هو الكمّ الصحيح، ...

85: ماذا خلف الباب؟!

أحبّ أن أتخيّل ماذا يحدثُ خلف هذا الباب، وذاك الشباك، وماذا تخفي جدران هذا البيت. وأخشى أن تُسمّى تلك فضوليّة خادشة، لكنّها في حقيقة الأمر تعمّق فيما هو أبعد من الأسفلت والخشب، تعمقٌ لما يمكن أن تحمله نفس الإنسان، وكينونة العائلة، وتعدد أفرادها. عندما تتحركُ عجلات السيارة أو يطير الميكروباص عابراً بنا أراضٍ خضراء وبيوتاً رمادية، تتوقف عيني لجزء من الثانية على كل باب نمرّ به، ماذا يمكن أن يخبّىء هذا الباب خلفه، ما القصة التي تتكوّن وتتشكل هنا! من يعيش هنا؟ كيف يبدو مطبخهم؟ هل مات لهم أخٌ أم أخت؟ هل لهم مغترب مسافر؟ أو قريبٌ غريب؟ وأفكّر كثيراً، أخلق سيناريوهاتٍ معقّدة وكثيرة وأحياناً أبسّطها إذا ازدادت سرعة المحركات وبدت البيوت شريطاً لا مكعّبات. مثلاً هذا البيت ذو الطوابق الثلاثة، لونه برتقاليّ زاهٍ، شبابيكه بنّيه، جانبيه ما زالا بالطوب الأحمر، لكنّ واجهته مزّينة بالورود المطبوعة. على حبل الغسيل سيمفونيّة عُزفت، الملابس الصغيرة فالمتوسطة فالكبيرة كالملاءات والجلاليب، في الشرفة قفص أبيض، بداخله عصفوران لم أتحدد ماهيتهما بالطبع، ما وراء الشبابيك الكبيرة، غرفةُ فتاة، تنامُ مشاركة مع ...

84:أغانٍ دافئة وطريق سفر

" حبيبي كان هنا مالي الدنيا عليّا بالحبّ والهنا، حبيبي يا أنا يا أغلى من عنيّا بتسأل مين أنا؟!" وطريقٌ مظلمٌ من بورسعيد إلى دمياط. في الليالي الهادئة التي تحملها عجلات السيارة لا قلبي المُثقل، أتساءل متى ستتكرر تلك اللحظات مجدداً؟! متى سيكون الشعور بالحياة خفيفاً ورائعاً وطيّباً إلى هذا الحدّ؟! وكيف لي أن أستيقظ كل يوم بهذه الخفّة، في قلبي ثقَة في الغيب وفي عيوني قمرٌ يعكس نور الشمس لا بلوتو بارد لا يعرف عن دفئها الكثير. دائماً ما شعرت أن أغنية طويلة وجميلة وطريق سفر هو مزيج مثالي للحظة حبّ، مزيج مثالي لكي ينشأ حبّ، ومزيجٌ مثالي لكي ينتهي حبّ، ومزيج مثالي لكي ينزف جرح حبّ.   " أنا الحبّ اللي كان، اللي نسيته أوام، من قبل الأوان" تغنيها ميادة الحناوي لتقطع لحظةً مثالية وتجعل النسيان ويكأنّه أمرٌ ساهل. أن تُنسى " أوام" هو أسوأ أنواع النسيان. أن تنسى لأنك لم تكن أصلاً كتلةً أو لم تكن مساحة أو لم تكن زمناً حتى. أنتَ تُنسى لأنك لم تحتل جزءاً من عالم أحد. لا أعلم لمَ أكتب هذا الآن، رغم أن الجو عذب، والموسيقى تماماً كالتي أحبّها، والسيارة تحملني في جوفها ...

83: مفاجئةٌ صغيرةٌ غير متوقعّة..

صورة
سأحكي لكم، حكايةً غريبة حدثت ليلة البارحة بينما كنت أمسك بهاتفي في بيتنا المتكون من طابقين وسلم يربطهما- وهذا وصفٌ سنحتاجه لاحقاً في تخيل المشهد-. بينما كنت أتصفّح هاتفي خايلني ظلّ متحركٌ ينزل السلّم، كائنٌ ذو أربعة، ولما التفتُ لجزءٍ من الثانية هُييء لي أنني رأيتُ قطة خارجة من غرفتي وتتمختر على السلم نزولاً للصالون الذي يعتبر جزءاً من الطابق السفلي للبيت.  " حسناً! ماذا رأيتُ لتوّي! إن كانت بالفعل قطة، فمن أين أتت وأين تتوجه حضرتها؟" وتوقف عقلي لوهلة من الزمن. وحملتني أقدامي لغرفتي علّني نسيت باب البلكونة مفتوحاً، أو أنني أتكهّن مثلاً! فوجدته مغلقاً ووجدتني في كامل وعيي. نزلتُ على السلم، ولم أجد شيئاً، اختفت، كأنها لم تُوجد أصلاً، حتى أنني خفت التوّهم، وأنّ لا شيء مرّ من هنا من الأساس، ثم تضاربت الصراعات، أعني، أنا أفضّل القطط عن الفئران أو ابن عُرس وحتى الصراصير، لكن إن لم تكن تلك قطّة بالفعل فماذا رأيتُ أنا؟ هل كانت روحاً عالقةً في بيتنا وكانت تريد الهروب! أصابتني أفكار مجنونة. نزلتُ بهدوء سلّماً سلّماً، وأنا أنونو وأبسبس علّها تشعر بالطمأنينة فتخرج من مكمنها، ومرّ...

82: كليشيه: "لماذا نكتب؟"

في إحدى صفحات الفيسبوك التي يتشارك فيها المهتمّون والمتيّمون بالكتابة كتاباتهم، اتفّق مؤسس الصفحة على موضوع ليشارك فيه من يودّ المشاركة، " لماذا نكتب؟!" وحدد ميعاداً أخيراً لاستلام كتاباتهم حتى يتسنّى له قراءتها واختيار الأفضل من بينها حتى يتشاركها مع جمهور جريدة " الطريق". فكرتُ: لما نكتب؟ فلم أجد جواباً، لأن التفكير بنون الجماعة أحياناً مُرهق ويتركنا نتفكّر بتخبّط في اختلافات النفس البشرية، وميولها واهتداءاتها وضياعاتها المتكررة، فأزحت نون الجماعة وفكرت: لماذا أكتب؟ وشعرتُ حينها أنني أعرف نفسي، أو أعرف عن نفسي ما يؤهلني لترجمة إجابة هذا السؤال من مجرد زخم مجنون ومعقّد لحروفٍ متراصّة يمسك بعضها بعضاً. أتذكّر عندما كنت ابنة السنواتِ الأولى من المراهقة، كنت أعتقد أن الكتابة تخليدٌ أزلي، وفي الحبّ نحبّ أن نلجأ للخلود فنكتب لمن نحب، ونرسل هديةً لصديق فنرفقها ببطاقة معايدة لنهادي من نحبّ، أو نعلّق قصاصة ورقية على ثلاجة المطبخ لنعتذر لمن نحبّ، أو نثبّت صورة في مرآة غرفة النوم وعلى ظهرها جملة لمن نحبّ، هكذا كنتُ أفكر، أكتبُ لأنني أحبّ. ثم عايشتُ الهزيمة، و...

81: لنركض خلف الغيمة التي لا تركض خلفنا

إن تركتها، أتت. وإن ركضت لها، انتحت. ليست تلك قناعة وإنّما ورقةٌ علّقتها على دولابٍ ما في قلبي، وأخذتُ أقرأها كل صباح كوِرد. أحاول أن أنجو من الخسارات المتتالية، وأريد أن أنجح في الإختبارات المتكررة، أريد أن أشعر أنّ ثمّة سرّاً سينقذني كلما ضللت طريقي، وكان هذا سرّي. يجب عليّ أن أتعلم التوقف عن الركض، وأن أتعلم المشي من جديد، فأستمع إلى الموسيقى وأتفكر في حياتي رويداً رويداً كلما خطوت خطوة في الطريق، يجب عليّ عن أترك الأشياء تنفلتُ من بين أصابعي لأن يدي لم تعدْ تحتمل حملها، ويجبُ عليّ أن أعترف أن السعي المستمر لا يعني بالضرورة الوصول وأن التخلي لا يضمن الخسارة. أتذكّر مكاسباً حصلت عليها دون جهد منّي ولا سعي، حصلتُ عليها بينما ألهثُ أنا في طريقٍ آخر، وأتذّكر فقداً لم أتصور له أن يحدث بكل سهولةٍ بينما كنت أسخر كل عمري لكي لا ينجلي ما تقبضه يميني. لا تحدثُ الأمور مصادفةً على كل الأحوال، أو هكذا أؤمن، فالحياة تتابعات مترابطة بشكل عجيب ومبهر، وحياتك بحد ذاتها أعجوبة منسوخة بدقة حريريةٍ كبيت عنكبوت بل أدقّ، بدايةٌ ونهايةٌ مدروسة يتخللها حبكات وحبكات، بعضها تعلْق فيه وبعضها تس...

80: لتكون محبوباً..

كلما حاولت بجهد كثيف أن تكون محبوباً، كلما بات الجهد الكثيف حائطاً بينك وبين أن تكون كذلك. صادقة، هكذا تعلمت أن أكون، أن أكون نفسي، نعم نفسي التي أكره فيها الكثير وأحبّ فيها القليل، لكن دونما أي جهد مبالغ منّي ولا محاولاتٍ فجّة التصنّع لكي أكون رائعة ومدهشة، لأنني نفسي، وثمّة من سيراني، وثمة من سيحبني لنفسي. هكذا أحبّ أن أذكّر نفسي كلما شعرت بالوحدة. لكن ثمّة أناسٌ يحاولون، ويحاولون، هؤلاءِ ستفاجئهم الحياة بفقدانٍ هائل ومتتالٍ، لا لأنّهم كانوا الأسوأ في الحفاظ على أحبّائهم، بل لإنّهم لم يملكوا أحبّاءً من الأساس، كلّ من التفّوا حولهم كانوا ردّ فعل على لطافتهم لا فعل حقيقيّ بالحبّ، كانوا ارتداد الكرة لا العزم الأول لرميها، كانوا الناتج لا المسبب. لأنّهم هم في الأساس لم يكونوا هم، لم يشبهوا أسماءهم ولا صفاتهم ولا سماتهم، لم تتشابه ضحكاتهم ولم تثبت رغباتهم، كأنهم حرباء تتلون بلون ما تلامس. وعلى رغم سماعك المتكرر للجملة التالية إلا أنّها أكثر الجمل البديهيّة التي قد تغيّر الواقع إن فُعّلت وعُومل بها الناس من الناس: إن كنت تريد أن تكون محبوباً فلا سبيل لك سوى أن تكون نفسك. - 80/3...

79: عامٌ على " النقرة "

في أيامك الحافلة، الصاخبة، المزدحمة، تعود إلى سريرك تستجدي النوم ليزورك لكنّه لا يأتي، وعلى رغم التعب والإنهاك وفقدان السيطرة التام على عضلات جسمك، إلا أن ثمة انتشاءً غريباً يرتفع لدماغك مع ارتفاع الأدرينالين الذي يرافق لحظة إسدال السيتار وإطفاء أنوار المسرح جميعها. ما اليوم؟ اليوم هو اليوم ذاته لكن من سنةٍ ماضية، ثلاثمئةٍ وخمسة وستون نهاراً مضت على هذا اليوم، وكمْ هي أيام قليلة في حياتك التي تكون الحياة بعدها ليست كالحياة قبلها. كان هذا اليوم إحداها. " نقرة " واحدة قد تغيّر نظرتك للحياة. نقرة واحدة قد تغيّر حياتك، نقرة واحدة قد تحمل لك من الحلاوة والمرارة  ما يجعل كأساً واحداً منها قادراً على إغراقك في سعادة مؤقتة متى اختفت غرقت في وحدةٍ مرهقة. في الصيف الماضي، كان جسدي يعجّ بالحياة، فتاةٌ تريد أن تمشي وتمشي وتمشي وتركض وتطير، لا بال مشغول ولا حزن قابع في الذاكرة، تريد أن تنشر طاقة وسعادة، فتنشر الطاقة والسعادة نفسيهما من خلالها، تريد أن تكون هي كما اعتادت. لكن. نقرة واحدة قادرة على تغيير حياتك. في الصيف الحالي، في هذا الحاضر الغريب، أجد أنني مُثقلة، وأنّ ...

78: ابلع ريقك، ثمّة شيءٌ عالق في حنجرتك..

ثمّة حبّ عالق في الحنجرة، لا منّا لفظناه ولا منّا تحمّلنا مرارته، جنينٌ غير مكتمل أُجهض، قطعة من الدم المُتجلّط والأطراف الغير مكتملة، لكن قلباً صغيراً فُسيفسائياً ينبض فيه، حبٌّ كهذا يترك الإنسان في حزنٍ عميق عميق. سيأتي عليك هؤلاء الواثقون، أصحاب الخطى المدروسة والممنهجة، يخبرونك بكل ثقة، أنّ ما تحاول تجاوزه في الأساس أمرٌ تافه، وما هو عالق في حلقك قد تزيحه جرعةٌ من الماء، ببساطة. أشكّ في هؤلاء، أعني كان باستطاعتهم أن يسمعونا ويخبرونا أن لا بأس، وأننا سننسى، وأنّ باستطاعتنا أن نحاول، وأنّ ثمة احتمالية لأن نحيا، لكنّهم قرروا أن يقولوا الجملة الساذجة اللزجة: " ما إنت اللي عملت في نفسك كده". أشكّ فيهم لأنّهم على الأغلب لم يعيشوا. لكن، لمَ أفكر في هؤلاء الآن! لأن هذا ما نفعله، نهرب للآخرين عسى أن يكون في أيديهم ترياق شافٍ، أو في كلامهم مداواةٌ حانية، نلجأ للآخرين لأنّهم ما لنا في نهاية الأمر، نحبّ أن نستمتع بحقيقة وجودهم وبنكراننا لفردية وجودنا، نحبّ أن نعتقد أن أحداً منهم سيرفعنا إن تهاوت أقدامنا، وأن أحداً منهم سيضمّنا إنْ استوحشت أضلاعنا، وأن أحداً منهم سيثقب أجسا...

77: معادلةٌ ناتجها صفر

ثمّة معادلةٌ أبحث لها عن حلّ، لإنني كلما حُمت حولها، وجدت لها ناتجاً واحداً فقط: أئمة المساجد+ خطبة الجمعة= صفر وهذه التدوينة ليست دينيةً وإن لامست الدين في خطوط شديدة البعد، لأنني كلما استمعتُ لخطبة الجمعة، في عدة مدنٍ في دول مختلفة شعرتُ أنني ابنة الثانية، أقف مُوبَّخةً بشدة حتى كدتُ أن أبكي عيوني، لأنني على الأغلب أخطأتُ خطئاً لا أفهمه، فيقولون لي: هتدخلي النار. هتدخلي النااااار. لماذا، وأبحث صدقاً عن إجابة، تصرخُ الأئمة على المنابر في خطبة الجمعة؟ لماذا تصرخ الأئمة أصلاً؟ لماذا لا أفهم كلمة مما يقولون؟ ليس لصعوبةٍ في اللغة، ولا لعجائبية في الطرح - رغم حدوثه أحياناً- ولا لتسييس الخطبة -رغم بشاعة الفكرة-، ولكنني لا أفهم، ثمة رجلٌ يصرخ في وجهي لمدّة نصف ساعة أو أقلّ، أعني أقلّ بكثير، ويعتقد بهذا أنني اتعظّتُ وتركت " المعااااااااصي"، صدقاً!  وأدرك أن أغلب الأئمة والشيوخ وأصحاب الحناجر الديّنة لا يقرؤون هذه المدوّنة لكنّ احتمالية أن يقرأها أحدهم يوماً ليس صفراً، لذا أرجوكم، كفى صُراخاً، فالطفل الساكن داخل كل شخص فينا، بات يرهبكم، ولم تعد لغتكم لغةً متداولة بين أفئدتهم...

76: أسئلةٌ وأجوبةٌ وصديقان ورضيع..

اليوم، منذ فترة طويلة جداً، أُسأل أسئلة عشوائية وثاقبة وتأتي الإجابة واضحة وشفّافة رغم ارتباكها. ولأنني أخفيتُ الكثير، جاوبت ما جاوبته بصدق هائل، كأنّها كانت ربع فرصة لأتكلم ما لا أستطيع البوح به.  لم أفوّت فرصتي لأسمع، في الحكايات مُتعة سرمديّة، فسألتُ صديقاي السؤال ذاته الذي سألاني إياه:" ما الحب؟"، فردّت: " الأمان، الإهتمام، والحنّية"، فقلت لها: " أليست الحنّية مجرد اهتمامٍ مُفرط؟"، فكّرت مليّاً ثم جاوبتني: " لا الحنّية حنينة كده، مش شبه الإهتمام" وسكتت كأنّها عجزت عن وصف الشعور، كأنّ حروفها تعثّرت أمام وصف الحنّية، لكنّها أشارت لصدرها، وراحت تحرّك كفيّها باتجاه القلب، هو شعور هنا، هنا تماماً. أمّا الصديق -الذي هو بالمناسبة زوجها- قال وهو يحمل رضيعهما بين ذراعيه: "الراحة، إنّي أكون مرتاح" " بس إنتَ ممكن تكون مرتاح مع ناس كتير" قلتها أنتظر الإجابة بأمل، فقال: " لأ الراحة دي بتبقى غريبة، بتبقى كاملة، بتبقى مش خايف من حاجة ومرتاح". وقفزت في مخيّلتي بعدما انتهى التسجيل، أجوبة أخرى، أجوبة كانت تجري في متا...

75: النسيانُ نعمة..

كيف لي أن أنسى إلى هذا الحدّ؟ أنسى كأنّ الذاكرة لم تَتعرّف عليك يوماً ولا الأصابع قد لامست أصابعك. كأنّك هالات وهلاوس، ولم تكن يوماً من لحمٍ ودمّ. وأكاد أؤمن أنها نعمتي، مزادي وزادي الوحيد من الدنيا، أن أنسى كيف شعرت حينها وكيف طرت حتى لامستُ السما، أنسى كيف كان طعم لحظة النجاح، وكيف انقبض قلبي ألماً من شدة السعادة، أنسى. وأكتبُ الآن ولا أستطيع حتى أن أستحضر لحظةً قديمةً مرّت كنت أملك فيها شعوراً رائعاً، وأنسى. كأنّ النسيان نومٌ عميق نلجأ له للهروب من الألم والذكريات وطاحونة التفكير. وأخشى، أنّ كثيرون سيمروّن تحت مقصلة النسيان خاصتي، يمكنني أن أرى رؤوساً تعلو فوق رؤوس، يمكنني أن أرى نهاياتٍ مُحزنة ومُخزية ولا تليق بكل هذا الحاضر العظيم، يمكنني أن أرى النسيان يأكل من لحم أناس يجلسون بجانبي الآن، يمكنني أن أرى في المستقبل أنهم نُسووا كأنّهم لم يكونوا يوماً. أما عن الأسى فلا يُنسى، وإن تناسيتُه، فهو يحفرُ في الفؤاد بئراً، والآبار لا تموت، الآبار وإنْ جفّ ماؤها تتحدى الزمن ولا تموت. لأنّ الأسى عنيدٌ وصلبٌ ومُظلم، والظلمة تطول. وأتساءل، هل هو معجزتي الطيّبة الرؤوفة أم مرضٌ...

74: سرب طيور حول ثقب أسود!

تعالوا لنتصنّع السعادة معاً، ربّما سيصيبنا جزءٌ من حقيقتها. ربّما. أعتقدُ أنني أسجّل يومي الخامس في السكوت، لم أعدّ أعدّ الأيام صدقاً، ولا أعرف تحديداً كيف تمرّ، لكنها كلما مرت كلما ضاعفت المسافة بيني وبين الناس، وبيني وبين الباب، وقاربت بيني وبين نفسي. أعتقدُ أن أفضل ما أقوم به الآن هو إتقاني إخفاء سكوتي، أعني بإستطاعتي أن أهمهم أو أوافق وأقول "نعم نعم"، أو "أفهمك"، أو حتى أخوض نقاشاً واسعاً لكنني رغم كل ذلك أسكت سكوتاً عميقاً إلى الداخل، كأنّني على سطح الثقب الأسود، فبالفيزياء والقوانين تراني على سطحه بينما أنا غير موجودة في الواقع، فتاتٌ ذرّي وحسب. وبالحديث عن الثقب الأسود، أعتقد أنّ الفيزياء- التي لا طالما كرهتها- كانت ستغدو مادةً رقيقةً لو تناولها الأدباء بشكل فلسفيّ دافىء، بيد أنّهم في الأغلب يكرهون الفيزياء أيضاً، أو لا يجدون فيها شاعريّة كافية. في الحزن شاعرية كافية. وأخشى أن تكون تدوينة اليوم ذات طابع حزين، لأنّ صاحبتها على الأغلب حزينة كذلك، وأن ينتقل هذا الحزن المتطاير من خلال شاشة الموبايل أو جهاز الكومبيوتر الخاص بك، لذا أعتذر، لأنّ الأح...

73: انتصارٌ وهميّ فوق السحاب

بعد رحلة طويلة، يمكنني القول أنني مُثقلة بالمشاهد، كأنّ العين كانت تسجّل كل ما يدور حولها، ومع ذلك لا أودّ أن أتحدّث عنها، لكنني سأقاوم بكل ضراوة رغبتي العارمة في السكوت، وسأكتب.. لا أعلم تحديداً ما الذي يفوتني في هذا العالم لأواجه هذا القدر الهائل من قلة الذوق والعنجهيّة في يومٍ واحد! لكنني سأتغاضى بطبيعتي التي تميل إلى المُسالمة عن كل هذه السخافات وسأحدّثكم عن فرصةٍ سعيدة للغاية، فرصة جعلتني أستقلّ طائرة يقودها طاقم كامل من النساء، كابتن إيمان وكابتن دينا وسيدتيّن تعذّر عليّ سماع اسميهما.  تخيّل معي عزيزي القارىء، طائرةٌ ممتلئة عن بُكرة أبيها بشعبٍ يملك بالدم عقيدة عدم الإستحقاقية والجودة النسويّة، تخيل! عندما نطقت المضيفة أسماء السيدات الأربعة اللواتي سيقدنْ رحلة اليوم، لمحت نظرة الإرتياب والشكّ والقلق في أعين الرجل والنساء على حدّ سواء، حتّى أن ماما أخبرتني بملىء تفاجئها: " كابتن دينا!". على الأغلب سيبدو في الأمر تحيّز فاضح، لكنني بالفعل شعرتُ بالسعادة، عندما هبطت الطائرة وهدأ كبرياء الرجال الواهي ونشأ في أعين النساء الغيرة الممتزجة بالغبطة بدلاً من التشكك الم...

72: أول سقوط في التحدّي..

لم تستطع مدونة اليوم من الإنفلات، من زحمة المطارات وضجّة الطيارات.. لذا لزم التنويه. وهكذا.. يكون يومي ال ٧٢ هو اليوم الأول الذي لا تُكتب فيها تدوينة جديدة. - 72/365

71: عقدٌ في اللسان والقلم..

أصعبُ ما في هذه التجربة، هذه الليالي التي تشبه الليلة، التي أكون فيها غير قادرة على إدارة أي أزمة في عقلي، عندما تتكاتف الأشغال والواجبات ولا يساعدني عقلي على إتمامها، عندما أخلو من أيّةِ فكرة وأيمّا شعور، كأنني صفحة ماء راكدة لشهور، لم يمرها إنسان ولا حيوان ولا نبت منها حياة. في تلك الليالي، أشعر أنني معقودة اللسان، لا يمكنني الكتابة، ولا أجد ما أفكر فيه، وأميل لثلاجتي، آكل وأشرب مشروباً ساخناً وأحياناً أسمع الموسيقى أو أمّ كلثوم، وأحياناً لا أطيق أن أسمع كلمة. وأودّ أن أظلّ متكئة على سريري أو على الأريكة التي تواجه التلفاز، أشاهد الترجمة وقتما أرفع عينيّ عن شاشة الموبايل. أشعر أنني كسولة وهادئة وغير منتجة على الإطلاق. هذه الليلة كانت ليلةً كتلك. - 71/365

70: كم هي مسؤولية عظيمة أن تتنفّس!

كمْ هي مسؤولية عظيمة أن تتنفسّ! إنْ اجتهدنا ما اجتهدنا لن نستطيع أن نمنع أنفسنا من الإنخراط في هذا العالم، وأننا وإن تصدّينا بكل قوّتنا لتلك الجاذبية العظيمة التي تشدّ أجسادنا تجاه البشر، تجاه الأرض وتجاه الحياة، فإننا لن نتمكن من النجاح في ذلك. قد نقرر أن نتخلى عن الحياة وجاذبيتها يوماً لكننا لن نتوقف عن الإندماج ما دمنا نحيا. ما الفرق بين من مات بالسرطان وبين من مات في حادث وبين من مات بعد أن قرر أن ينهي حياته بمفرده وبكامل إرادته؟  بالنسبة لي جميعهم توقفت قلوبهم كنتيجة حتمية للمسبب مهما اختلف، كلهم رغبوا في الحياة يوماً، كلهم تخيّلوا مستقبلاً، حبيباً وأحلاماً تعنيهم. كلهم استشعروا مسؤولية أنّهم على قيد الحياة. لكن مع وجود مليارات البشر، يمكنك أن تستصغر مسؤوليتك بينك وبين نفسك، أن تشعر أنك بلا حِمل على الإطلاق، كأنّك " كائنٌ لا تُحتمل خفّته "*، أن تساعد صراعات نفسك على الخفوت، أن تُخبرها أن الحياة لا تتطلب منّا أفعالاً مبهرة ولا جنونية، ولا إثباتات أو ضمانات، أننا نحيا لأننا خُلقنا، وأننا خُلقنا لكي نحيا. لذا تخيّل عزيزي القارىء، إن قررنا أن مسؤولية التنفس الع...

69: التغيير هو الثابت الوحيد..

هؤلاء الذين يأتون ويذهبون، لا خفّة بنا على أكتافهم ليحملونا ولا ثقل لنا في قلوبهم ليذكرونا، إما أنّهم احبّونا أكثر من اللازم فهلكت أجسامهم أو لم يحبّونا كفاية لننجو معهم هولوكوستر الحياة المجنون. ولا عيب في الحالتين. على كل الأحوال التغيير هو الثابت الوحيد في هذه الحياة، وما دونه سذاجة. كانت جدّتي تُجلسني بقربها بعد أن تفرد السماء ملايتها السوداء، ويعمّ السلام الحارّة، ويسكن جنون الأطفال وصوتهم أسرّتهم الدافئة، وتبقى حبيبتي "زهرة" متكّئة على مخدّتها القطنية، متمددة على حصيرتها الخضراء، والتي تتعشّقها الصفرة وخطوط طوليّة سوداء، تلبس عباءة خفيفة قطنية، كادت أن تختفي نقشتها من كثرة تغطيسها في الماء الفاتر في غسّالتها اليدوية. وتبدأ حكاياتها، في حدود التاسعةِ مثلاً أو قبلها بقليل وننتهي قبل أن تتجاوز الحادية عشر. وكلما قاربت عقارب الساعة على الحادية عشر، كانت تغفو وتستيقظ، تغفو وتستسقظ، متعبةٌ لكنّها تريد  أن تكمل الحكاية. ولا أتذكّر فيما حكينا، لكننا كنا نتشاركُ آراءنا سويّة، كنّا نتحدث عن حريم الحارّة، وعن أولاد العم وأولاد العمّة، جدي وأخواته، كنا نتحدثُ ونتحدثُ حتى تنام. أ...

68: ستُّ جنيهاتٍ في تغريدة

قرأتُ اليوم تغريدة، أعادتني بضع سنين للوراء، كان مفادها: "  مش إدعاء للمثاليه ولا غيره بس اقسم بالله قلبي بيوجعنى مع كل واحد بيدخل الصيدلية ويتفاجئ بالسعر فى الاخر ومبيكونش معاه فلوس العلاج." كنتُ متدربّة في صيدلية من أكبر الصيدليات الموجودة في المحافظة، كان يجب عليّ أن أنهي عدد ساعاتٍ معينّة في التدريب، فبدونها لا يمكنني النجاح في سنتي الرابعة والخامسة في الجامعة، ولابدّ لهذا التدريب أن يكون في أشهر الصيف اللزجة المزدحمة، وقررتُ، حبّاً في التجربة لا في صيدلة، أن أقف خلف المنضدة الخشبية، وبدل أن أمدّ يدي بالروشتة الطبية، سأمد إحداهما بالأدوية والثانية بتعليمات الإستخدام. بدت التجربة مشوّقة في خيالي. الواقع لا يُغازلك ولا يبالغ في ما يقوله لك عندما يخبرك الجملة التي تتهرب منها دائماً:" إنتَ لسا ما شوفتش حاجة!"، لأنك كلما خضت في بحر الدنيا المنقسم على جنبيك كموسى، كلما أدركت هول الذي يلفّك من كل الإتجاهات، وإنّك إن لم تكن موسى في نهاية المطاف فستغرق بلا رحمة كأنّك فرعون. ثمة بحر كبير وغامض حواليك، كلما نظرت كلما اكتشفت مفاجئة أخرى. في الفترة الأولى في تدر...

67: لهفةٌ للشتاء: الدفء الذي أحبّه

أتمددُ على سريري، ألتحفُ ببطانيّتين، وتحتي "دفّاية" كما نلقّبها في العامية المصريّة، وهي غطاء صوفيّ يمنع عن جسدك لحظة البرودة التي تسري من خلال جلدك كصعقة كهرباء بسيطة، أمسك فنجاناً ساخناً من السحلب المحبب إلى قلبي، تفوح في الغرفة رائحة شمعةٍ اشتريتها في موسم التخفيضات الصيف الماضي، وأفكّر ما الذي سيتغيّر في حياتي الشتاء القادم! أشتاقُ للشتاءُ، لأنّني أكون فيه أكثر هدوءاً، يُمكنني التفكير بروّية، ولأطرافي بالإرتياح، رغم البرد الذي يتمركز فيهم. وجوه الناس في الشارع تغدو أكثر سلاسة، سائقون التاكسي لا يشتمون كالعادة، الناس تتلحفّ في ثيابها الثقيلة، لا ينظر لهم أحد، ولا يضايقهم أحد. ثمّة أناقة في الملابس والأحذية الطويلة، وشهامةٌ في الجواكيت التي تنتقل من كتف لكتف، ورومانسيةٌ في المظلّات التي يتشاركها اثنان، وفي فناجين الشاي التي تلفّها أيادي الجالسين في المقاهي، ثمّة جمال في أيادي الفتيات وهنّ يمططن أكمام ثيابهنّ الصوفيّة لتغطي كفوفهنّ، ورقّة في أن ينفخ زوجٌ دفْأه في راحة زوجته ليتشاركا الدفء.  في الشتاء مفهوم الدفء أصلاً، وهذا ما يجعل الشتاء يحمل تفرّده في قلبي، للأنني...

66: ماذا تفعل الكتبُ بالقلوب؟!

صورة
البارحة، مررتُ بجملة بحثتُ عنها طويلاً، وشعرتُ كأنّ لوحةً فنيةً استوقتني، أو صوت ناي يعزف بجانبي ليستدعيني، كأنّ مغناطيساً جذبني نحو هذا العنوان الآسر: " سيّداتُ القمر ". في أول مرةٍ سمعت ُ فيها عن جوخة الحارثي وروايتها التي حازت على جائزة مان بوكر العالمية " سيداتُ القمر" ، انتابني فخرٌ خفيّ، رغم أنّ إنجازها شخصيّ لكنني شعرتُ أنّه إنجازٌ جماعيّ للمرأة العربيّة، بل للكاتبة العربيّة، بل للأديبة العربية. ولستُ أتحدثُ عن روايتها اليوم بموضوعيّة لأنني بدأتها ولم أنتهِ منها بعد لكنني أتحدثُ عن مدى جمال اللحظة التي تحصل فيها على عملٍ فنيّ بحثت عنه طويلاً، بنُسخةٍ ورقيّةٍ بديعةُ الطباعة، والأهم أنّه لكاتبة قرأت لها أربعة سطور على ظهر رواية وأيقنت بعدها أنك على بعد غلافٍ من قطعةٍ جماليةٍ مُحتملة. قبل أن يغلبني النوم البارحة، غلبني الحماسُ لأقشّر الغلاف البلاستيكيّ وأبدأُ في قراءة الصفحاتِ الأولى من الرواية. فأخبروني إذاً أعزّائي القراء، كيفُ يمكن لكم أن تعبروا عن سرقة القلب من فرط الجمال، وتخبئته في بستان واسعٍ من الزهور التي تبرعمت من الكلمات؟  لقد بدأتُ م...

65: ثلاثة أفكارٍ وأنا ..

اليوم، فكرتُ في ثلاثة أفكار رئيسيّة، وباستثناء هؤلاء الذين تفرّعوا خلال اليوم ونسيتهم، كانوا كالتالي بترتيب اليوم: 1- الدخول في نقاشات عائلية معينة قد يبدو نوعاً من الإنتحار إذا تأملت في أن تصل في نهايتها إلى نقطة مشتركة. ولا يمكنني أن أعلّق عباءة القسوة المطلقة وأستثني ذواتنا. لأَنّه من الكَبَد أن تحاول أن تدمج عالمين، جيلين، بيديك الصغيرتين. فماذا أنتَ بفاعل إذاَ؟ الإستسلام؟! 2- على قدر جمال حقيقة أنّ " العينين فضّاحة " إلى أنّها أحياناً تفضح ما نحاول تماماً أن نخفيه، ولا نريد لها أن تقول ما لا تقوله ألسنتنا، فكيف سنخفيهما؟ كيف لنا أن ننظر في عين من نحبّ دون أن تشي بنا أعيننا؟ كيف لنا أن ننظر في عيون جدّاتنا دون أن تُقلقهم نظرة التيه تلك؟ كيف لنا أن ندّعي الضحكة وفي العينين دمعة مرئية؟ كيف لنا أن نخفي كل هذا الثقل حتى لا يسألنا أحد عن انهزاماتنا المتتالية؟! 3- على غير المتعارف عليه في عالمي، أستشعر أحياناً أنني جاهزة للبشر، أعني قادرة على الإندماج والتعارف والنقاش، وتلك لحظات لو تعلمون قليلة، تحديداً عندما تكون قويّة كفاية لتحيد بي عن الكتابة، وكأنني جاهزة للحديث أكث...

64: " إزّاي تكون إنتَ وتكون عيون غيرك؟ "

" إزّاي تكون إنتَ وتكون عيون غيرك؟ "  مُعضلة يطرحها جمال بخيت من خلال أغنية فيلم "إسكندرية ليه؟" ويزيّن أطرافها صوت علي الحجار الذي يملك من الحنيّة والدفء ما يهدّىء روعي دائماً. https://soundcloud.com/yara-yussef/ujfvgaie748z وأريد أن أفكّر في الإجابة، لأنني لطالما فكّرت فيها عندما وقعت على مسامعي للمرة الأولى، وأشعر أن طرفاً من كينونتي تلامس مع مكنون هذه الجملة، كالتقاء طريقين عند نقطة في المنتصف. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، البارحة، كنت أحكي لصديقٍ عزيز للغايّة، كيف كنت " عيون غيري " طوال الوقت للحدّ الذي أفقدني نفسي وتوقفت عن " كوني أنا". وأهم ملامح هذا التحوّل الأحمق والناضج معاً: الصمت، ولأنني أصبحت أتميّز بالصمتْ عندما يجب عليّ الكلام، وبالغضب عندما يجبّ عليّ التزام الهدوء، أردكتُ أن قسوة عدم " كوني أنا " جعلتني ألجأُ للإختيار الأول لأنني لا أريدُ أن أُحزن أحداً، وأن ألجأ للإختيار الثاني لأنّ قلبي يسرّب طاقاته المكبوتة في أي لحظة ساذجة للهروب من المشاهد الكبيرة. ومن واقع مجتمعنا، يمكنك أن تعرف كيف ينتهي الحال بمن حاولوا أن يك...

63: متى أعودُ لمنزلي؟!

أشعرُ أحياناً أنني بحاجة للعودة إلى منزلي، بينما أكون أصلاً في غرفة المعيشة أو حتى أتمدد على سريري! وكأنّ الغربة لا تكتفي بالمساحات والمسافات والأمكنة، لكي تمتدّ لعمق عمق الروح.  أحياناً يبدو أن السير لبيتي أبعد من قدرتي على الوصول، وأنّ بيتي ليس في أيّ مكانٍ قريب من هنا، وأنني على الرغم من ضجّة المحيطين، فتاةٌ صغيرةٌ ذات شعر مقسوم لضفيرتين، تُمسك بأيسكريم ذائب في قيظ أغسطس، تبكي بمفردها. وقد يبدو الشعور مُمكناً، أعني أشعر بالألفة لأنني أؤمن أنّ بشراً آخرين تمّكنوا من الإحساس بذات الشعور الذي شعرت به مُسبقاً. ولكنني أخاف من أن يكون إيماني بهذا نابعٌ من خوفي من الوحداوية حتى في الشعور، بينما البشر في الخارج لم يتمكّنوا من مشاركة ذات الشعور معي أصلاً!  جزءٌ من ارتباطي بدفء هذه المدوّنة، إن اجتزأنا منها رغبتي الشخصية في أن أعبّر عن نفسي ككاتبة، فهي ونسٌ شخصي، كأننا وحدنا في العالم، أنا والمدونة، متفرّدين باضطراباتنا، وطيبتنا، وسخافة رأفة قلوبنا. وعلى كلّ هذه المؤازرة، فهذه المدونة لا تعلم الكثير عن صاحبتها، إلا أن صاحبتها تعلم الكثير عنها، مثلاً، هي لا تعلم رغبتي في أن أكسر...

62: تربيةٌ. وتعليم. وعدلٌ كثير : حكاية

الأستاذ المبجل رامز مدحت حسن، مدير مدرسة وربّ أسرة ومعلّم سابق. لكنّه ما زال يلبس عباءة المعلّم، لا تواضعاً بل زيادة الخير خيرين. ينزل من باب مصعد عمارته الأنتيك، يمشي في الشارع بامتلاءٍ وعظمة كأنّه أطعم الأجيال من طبق علمه المُبجّل، وأغدق عليهم محبةٍ لا تنضبّ. ثم يكمل طريقه بالتوازي مع الكراسي الخضراء القديمة التي لم يعد من لونها أي زهو، تلك الكراسي المصطفة على طول نهر النيل، ثمّ ينعطف يميناً ويكمل مسيره بذات الخيلاء، تليها انعطافةٌ إلى اليمين كذلك ليسير بين بضع عمارات حتى يصل لبوابة مملكته وسطوته الهائلة، بوابة المدرسة. في الصباح، بعد أن انتهى الطابور وانتهت معه ضوضاء الطلبة والمدرّسين وعزف الآلات الموسيقية التي كانت وما زالت تقرع في عقله لا في مكبّرات الصوت، وبعد أن انتهى من تناول شايه الصباحي الذي أعدّه عمّ عماد، وبعد أن وقّع ما وقّع، راح يسير في المدرسة كطاووس، يريدُ أن يطمئن، لا على الطلبة، ولا على المدرّسين، ولا على الإنضباط، كان يريدُ أن يشعر أنّه يسيطر على كل شئ، وأنّ كل شئ في مقامه الذي أقامه له. كان يريد أن يرى نجاحاً لشخصه يتمشى بين أروقة المدرسة ولن يقبل بما دون ذلك على...

61: جوعٌ لا يسدّه طعام..

الناس، في بلاد الكونكريت والأسمنت، يدورون مع الطواحين الهوائية للرأسمالية، قد تمتلؤ جيوبهم لكنّ فراغاً مدوّياً على الأغلب سيتمركز في عمق الروح. كلّما قرأتُ عن بغداد، مدينة السلام قبل حرب الّلاسلام التي شنّتها مدعية السلام الأولى في العالم، رحتُ أشعر بحجم وفداحة الفقدان. إنّ التاريخ يكتب عن الخسارات الثقافية والتاريخية والإنسانية كأنّها خسارة عملة معدنية في آلة بيع تلقائي، لذلك لا أحبّه، أحبّ أن أقرأ لكاتب يستحضر التاريخ في عمله، هكذا أفهم التاريخ، حين يمتزج بالمشاعر والنشيج والإنتصار. هكذا قرأتُ عن بغداد، وهكذا قرأتُ عن مصر، وهكذا قرأتُ عن البقيّة. إنّ تدوينة اليوم ليست عن التاريخ، بل الفجوة الروحيّة التي ثقبتنا عندما غابت الثقافة والموسيقى وكل أشكال الفنّ الرقيق من شوارعنا ووجوهنا، إنّها عطش القلوب للسلام والإبداع والحريّة. إنّها اللحظة التي أدركنا فيها خوفنا من السير في شوارعٍ بعينها، أو دولٍ بعينها، أو من أسماءٍ بعينها. إنّ انكبابنا الحاليّ واللهث خلف لقمة العيش لم يكن اختياراً لكنّه أنسانا حقيقتنا، أنسانا أننا نشأنا من الجمال، أننا كنا الجمال، وأننا صدّرنا الجمال، نحن غذين...

60: يتبع: أعمى الفؤاد في مواجهة الحبّ

هل كان الجميعُ مبصراً سواي؟ هل ما يدقّ بين أضلعي، قلبي أم قلب الآخرين؟ ولم رأت سوسن ما رآه أيمن ولم أره أنا؟! لماذا؟! أكاد أصاب بالجنون. وما هيّج الجنون أكثر، كيف انزلقت سوسن من الذاكرة دون أيّة محفّزات، لم يحدث موقفٌ ما، ولم يستحثّ ذكراها طعام أو رائحة أو مكان تشاركاه، هكذا بدون إنذار، قفزت من بيتٍ مسكونٍ في الفؤاد، وعلى غير العادة، استقبلها عقل شريف بكل أريحيّة، بل ودافع عن إقامتها ولم يُزجها بعيداً. رنّ جرس الباب، كان أيمن ممسكاً بكيس فيه طعام وشراب بيد، واليدُ الأخرى تعرض سيجارةً، بدا كأنّه سيلملم له أجزاءه المبعثرة وسيجعله يفهم ما الذي غاب عنه لسنين. جلسا على الأريكة، يتشاركان الهواء والطعام واللحظة، ثم قال أيمن متعجّباً: " لماذا الآن؟ ثلاثُ سنوات من الغياب التامّ؟ ما الذي آلم الذاكرة إلى هذا الحدّ؟ " ردّ كأنّه يردّ مَظلمة: "لا شيء، لا شيء بتاتا! فجأة وجدتها مصوّرةً أمامي كأنّها شخصية في كتاب أو نسج من خيالي، لا أعرف تحديداً، لكنّها ظهرت." " كلّمها .." " لأقول؟ مرحباً سوسن، لقد اكتشفتُ اليوم أنني تركتك تنسابين من بين أصابعي كرمال متحركة، ...

59: في عقل شريف أقحوانةٌ بريّة: حكاية

  https://soundcloud.com/salma-saud/vljhjqzqopce * يُرجى سماع هذا المقطع الصوتيّ خلال قراءتكم للأسطر القادمة* وقف شريف أمام الزجاج الداخليّ لمكتبه والذي يميل لونه إلى الزُرقة، مُتذكراً وجه سوسن وهو تقول: " متخافش يا شريف، محدّش بيموت من وجع القلب، أو يعني، أنا اللي مبموتش من وجع القلب، أنا قطة بسبع أرواح "، قالتها وضحكت كأنّ خنجراً مسموماً قد أرداها قتيلة فأرادت أن تضحك للدنيا ضحكتها الأخيرة. ما الذي حفّز ذكراها اليوم؟ ما الذي ضغط الزناد على الفؤاد الذي ظلّ لسنوات يُعامل سوسن كلوحة حائط أو مجرد رقم يحفظه الهاتف المحمول ولا تحفظه الذاكرة؟ لمَ اليوم تعود سوسن كأنّها أقحوانةٌ بديعةٌ لتفسح لنفسها مجالاً في مزهريةِ الورود الرماديّة الجافّة؟ لمَ رنّ صوت ضحكتها المتألمة بدلاً من صوت رنّة الهاتف؟ راح شريف يتساءل فاقداً لزمام أمور يومه، غارقاً في حالة من الدهشة فحسب. كان يجب عليه أن يغادر المكتب الآن، فبرغم أطنان الورق المكدّس على مكتبه، والعمل المؤجل والمواعيد المسبقة، لم يشعر أنه قادرٌ على مواصلة اليوم خلف زجاج مكتبه، ولأول مرة شعر أن اللون الأزرق الذي يعشقه، يشعره بالغرق. ...