المشاركات

عرض المشاركات من أكتوبر, 2019

181: انتخابات ذاتوية

أعلمُ جيّداً كم كانت ستختلفُ الأمور لو ذهب كل واحد منّا في الطريق الذي اختاره، الذي تراءت له فيه نفسه لا كوهمٍ بل كضوءٍ ساطع سطوع الشمس في عزّ الضهر. ولأننا لا نُعايش الحياة من المسلك الذي يجب أن تُعاش من خلاله، اختلّت كل موازين الإختيار والقرار وباتت حيوات الجميع نُسخةٌ مستنسخة من بعضها الآخر، دون أيّما بوادر شجاعة لتغييرها. ولا ملام بالطبع، فمن قرر أن يحيد عن القافلة جلبوه مذلولاً مُهاناً بالشتائم والتجاوزات الكاذبة، ليعلّقوه في ميدان فيسبوكيّ عام لا رحمة فيه ولا عدل ولا حتى حقائق كاملة. كان بودّي أن أعايش الإختلاف الجميل، الذي يصنع بيئة كاملة مسالمة ومتوازنة من كل شيء، لكن يأبى مجتمعنا إلا الإنغماس في الفرقة واللاجمعية. من أنتَ لنتقبّلك بكل سلاسة ؟ أتظنّ نفسك سياسياً فاسداً أو حاكماً أو حتّى شخصاً بالكاد يملك أخلاقاً؟ نحن نتقبل هؤلاء فقط، لأننا لا نخاف دونما ذلك. فما الذي يجمع الأفئدة سوى الخوف! وللإختلاف وجهٌ آخر، وجه أكثر قسوة وأشدّ عنفاً، ويكون رحلة لضبط الذات وشهواتها وانفعالاتها مهما انفلت زمامها. وأتخيّل أنّ أمراً كهذا لن يكون بالصعوبة التي صّدرت إلينا حتى نكره من يمتازون...

180: ندبتي السريّة..

لديّ جرح قديم أسفل رأسي ما زلت أشعر به كلما فركتُ شعري أو تحسستُ بألم ما. ولا أُخفيكم بالاً، أشعرُ أنّه ختمُ بالشمع الأحمر فيصعبُ التخلّص منه حتى وإنْ حاولت ذلك. كأنّه ندبةٌ أبدية للصخرة التي أملكها من العند بدلاً من رأسي! طفولتك تُفسّر أغلب الأمور التي تمرّ بها، أغلب المشاعر التي تعتريك والتي تبحث عنها بكامل قوّتك، والتي تنفر منها على حدّ سواء، تُفسّر طباعك وأغلب الرغبات القابعة في باطن باطن أعماقك، وكذا تُمثّل جزءاً كبيراً من مخاوفك التي تكبر معك وتشيخ بك. وأعود بذاكرتي لمواقف كثيرة أقدمتُ عليها بعنفوانٍ تام وتهوّر غير مسبوق في الطفولة تجعلني أفهم طبيعة نفسي اليوم، وتجعلني أجد على الأقل ولو تفسيراً مؤقتاً لما يحدث ؛ فأقول ببالٍ شبه هادئ "لا طالما كنت كذلك ". سقطتُ مرّة على طرف الطاولة، كان الألم كبيراً على طفلة في الرابعة أو الخامسة من عمرها، لا أتذكّر تحديداً، لمستُ أسفل رأسي بطرف أصابعي، ثم أعدتها أمام عينيّ فوجدتُ دماً. لم أبكِ. ولم أنبس ببنت شفة لأحد، رغم اضطراب ماما الواضح الذي ظهر في صوتها القادم من بعيد : "حصل حاجة؟ " فرددت بالنفي سريعاً لرمي التهمة عني ...

179: لم يتخيّل أحد..

أشعرُ بالأسى على أهالينا الذّين جلبونا لهذه الحياة دونما تخيّل أن الأمور ستؤول بنا إلى الهاوية بكل هذه السرعة، كأننا ركبنا شهاباً يسقط من السماء، هبوطٌ سريع يقطع ملايين السنين الضوئية في ثوانٍ، هكذا كان انحدارنا نحو الهاوية. ورغم أنّه باستطاعتي أن أرمي كل اللوم والعتاب على أكتافهم، على بطون الأمهات اللائي حملننا، على الشهوة والرغبة والإستمتاع وليالي الخميس، لكنني أفضّل ألا أفعل. من توقّع بربّكم أن يحلّ بنا كل هذا الجور والحزن و ما يجزع له الخيال! ولادة طفلٍ في هذا الزمان فعلٌ غير مسؤول لأنانيّته وكثرة مساوئه، لأنك على الأغلب بصدد إنجاب طفل سيواجه انحداراً أشدّ انحرافاً في المستقبل، انحدارٌ قد يهدد أمنه، أفكاره، مبادئه، هذا إن استطاع أن يصنع بعضاً منها في خضمّ مسرحية الفتن الكاملة التي نعايشها وتعايشنا بشكل يوميّ. بالطبع لم يتخيّل أحد أننا سنصل لزمان، تسير فيه النساء في مصر غير آمنة، وغير قادرة على الإستناد على رجل غريب تتأمل فيه الشهامة لأنّ للشهامة ثمن غالي الآن. لم يتخيّل أحد أن يقفز أحد من القطار لإنّه لا يملك حقّ الأجرة، وكذا يتركه الركّاب لمواجهة قدره المجهول كأن لا شيء يحدث ...

178: و قَاوِم..

قررتُ اليوم أن أمضي وقتاً أكثر أمام المدونة، لعلّ قلقي تجاهها يتضاءل، أو أرضى من خلالها عن نفسي قليلاً. ولم تكن المدونة مجرد تحدّي، لم تكن تحدٍّ من الأساس حتى وإن أسميتها كذلك، بل كانت حلقة الوصل بيني وبين الكتابة اليومية التي أحبها بالطبيعة ووقف الكسل حائلاً بيني وبينها لسنوات، وقررتُ أنّه يجب على ذلك أن ينتهي. حتى وإن لم ينتهِ بالفعل، ظلّت المدوّنة هي المحاولة الأخيرة في نهاية كل يوم لكي أقف أمامه بما تبقّى من قوّتي، وأخبره: " ليس لك عليّ سلطان يا عزيزي. أنا أقاوم ". وأنا بالفعل أقاوم. دائماً أقاوم. ولأبي دورٌ كبير في هذه المقاومة، رغم أنّه لم يكن متوّرطاً يوماً في أي نوع من المقاومة الوطنية ولا يحبّ إلا أن نمشي آمنين جمب الحيط، إلا أنّه لم يتوقف عن المقاومة يوماً، في سعيه المستمر للمثالية أكبر تمرّد في وجه المجتمع الموحل في الطين. اهتمّ ببلاده لكنّه لم يُفنِ عمره لها، بل أفناه لبيته والأربع فتيات " اللي طلع بيهم من الدنيا " وزوجته المُحبّة التي اختارته دائماً وأبداً في أشدّ وأحلك أيامه كما اختارته في أكثرهم رخاءً. يجوب في خاطري هاجس " لمَ نقاوم؟ لمَ...

177: ديل حصان أو كحكة بومبيه

عايزة أحكيلكم حكاية بسيطة جداً عن نفسي. زمان، كنت مهووسة بوظيفة المُضيفة، وده على الأغلب نابع من إن طفولتي اتقضّت في الطيارات بين الشنط وكراسي الطيارة اللي كانت أيامها أوسع من دلوقتي. كان منظر المضيفة المصرية بيبهرني - آه والله ده حقيقي- وكنت ببصلها بصّة كلها تطلّع وتأمل وتمنّي؛ أنا عايزة أبقى زيّ الناس دي لابسة چيبة سودا لتحت الركبة، وقميص أبيض وإيشارب ستان منقوش عليه الرسمة المميزة لمصر للطيران، أمّا الشعر فإمّا " ديل حصان" أو " كحكة بومبيه"، وعارفة لو إنتَ مش مصري هتواجه صعوبة في تخيل التسريحتين. لكن أرجوك حاول ولو التخيل منصفكش دوّر على جوجل. بابا كان جايبلنا مكتب أزرق صغير نزاكر عليه لما كنّا في بدايات ابتدائي، عظمة المكتب الأزرق ده تتلخّص في العجل اللي كان شايله، فده ساعدني إني لما قررت أكون مضيفة لأول مرة في حياتي، أستخدمت مكتبي الأزرق كتروللي للأكل، وكنت أعدّي بيه بين السريرين على اعتبار إنهم صفّين الكراسي، وألبس جيبة وتيشرت أبيض وألفّ على رقبتي أي إيشارب وهكذا، وفجأة بتحوّل من طفلة بلطجية لمُضيفة من أنحاء الزمالك بتكلم من مخارج رقيقة فقط لا غير، وأي مخار...

176: الذهب والكارما..

كارما، كلمةٌ جميلةٌ بديلة لـ "يوم ليك ويوم عليك" أو وصفٌ يتسمّ بالباشويّة عن جملة " الدنيا سلف ودين".  ماذا تنتظر من الصبر بعد أن ينتهي؟ أن يفكّ صرّته أمام ناظريك ليمتّعهما بالذهب الخالص؟ لأن ذلك تماماً هو نتاج الصبر، وهذا ما جنته الأيام على أصحابها. اليوم، لن تبدو الحياة متسلطة ولا انتقائيةً على نحو مزرٍ لتخدعك أنتَ، بل تبدو جاهزة ومُتأهّبةً لنجدتك كلما علا صوت نحيبك. وكل ما يحدث حولك، جزء منك على العموم، القصص المتداخلة والحكاية والرواية هي أجزاء قصّتك وكنزك الخاصّ. كل الأسماء المتطايرة والشخصيات التي مرّت أو مكثت أو ما لبثت فطُردت كإبليس من الجنّة، هي أسماء شاركت في تركيب اسمك، وتشكيل حرفك، هذا إذا تذكّرت نصف أساميهم حتّى بعد أن يمرّ بك العمر مروراً طائشاً. مشاهدة الأرض، وهي تدور في حركة دائرية حول نفسها يجعلك تشعر بالإطمئنان تجاه القدر، لأنّ الكون يعلم ضرورة العودة، لابدّ له من العودة لأنّ العدل حتميّ الحدوث ولأنّ منبع الولادة هو منبع انقباض روح! هذا الكون سيساعد الأرض في اندماجها مع المحيط وسيجعلها صديقةً له، وأحياناً سيجعلها عدوّة؛ ففي كل مرة ستدور دورته...

175: جوّزتِ البنات..

غبت عن الديار ليلةً، فلمّا فتحت لي ماما الباب قالت: " وشّك منوّر ". ولا أدري هل لأنني شهدت زواج أمنية البارحة وفرحتُ أم بسبب غسول الوجه الجديد هذا الذي استعرته من إحدى الصديقات!ً كُتب عليه غسول يساعد البشرة على التفتيح. فهل بالفعل " لِحق"؟! لا أُفضّل الأعراس كثيراً، أحبّ الهواء الطلق والبحر والأشخاص المقربون، أحبّ الموسيقى والرقص والطعام والضحك سويّاً، أحب الرقصة الأولى، والقبلة الأولى والحضن الأول، وأحب أكثر تسليم والد أو أخو العروس لعريسها المنتظر في آخر الممشى، لكنني لا أحبّ الأعراس لأسبابٍ كثيرة. لو سنح لي القدر فرصةً لخوض هذه التجربة يوماً ما، أودّ لها أن تكون ناعمة كفنجانٍ صباحيّ من القهوة، شيء سلس ودافىء وهادىء، لأنني في الغالب لا أكون على راحتي في التجمّعات والأشخاص الكُثر.  والآن، كما يقول زوج صديقتي :" جوّزتِ البنات يا أسما " أفكّر في الخطوة التالية كأنني بالفعل قد جوّزت البنات وارتحت من مسؤوليتهم الواقعة على عاتقي، لكنني فاجئتُ نفسي أسألها: ماذا بعد؟ أعتقد سيكونون أُمهات، يُجرجرون في أذيالهم أطفالاً لُطفاء أو أشقياء كالقرود. لكنّ هذا لم ي...

174: مطرٌ مطر..

تأخرت هذه التدوينة كثيراً، أكثر من اثنتا عشرة ساعة. وكنت أودّ أن أعتذر عن تدوينة البارحة وهي التدوينة المئة وأربعة وسبعون بالمناسبة، لكنْ هنا يكون الأصدقاء محركاً رئيساً في استمرار أحلامك على النهوض من بركة التعب المدقع. الشتاء جميل، نغم عزف المطر على خشب شبّاك الصالة، الناس التي تلزم بيوتها والشوارع مُطمئنّة كأمّ نائمة، كل شيء مُحبب ودافىء. لا تفكّر في الشتاء كمِصر، كفشل ذريع في الأسس، فكّر فيه كإنسان له عاطفة وذِكرى. الآن، قم من سريرك أو انهض عن كرسيك، افتح النافذة وتنفّس بعمق، هذا الماء السماويّ سيُطهّر أحزانك جميعها، سيُساعدك أن تنجلي مخاوفك ولو لثوانٍ. تنفّس بكامل حواسّك كأنّك إسفنجة، كأنك بيئة بريّة جافّة ما لبثت أن ذاقت الإرتواء فحَيت. هذا الجوّ البديع لك، وأنتَ تحياه. عِشه حتى آخر قطرة مطر فيه. - 174/365

173: من ما وراء العدسة

من مميزات شبّاك المشفى الذي أعمل فيه كصيدلانية، هو صُغر حجمه، كأنّه عدسة مُكبّرة لوجوه الناس! فأرى من خلاله بكل دقّة جمال العيون واستدامة الندبة التي في الجبين أو أسفل الشفاه. أرى الخمار والشعر الناعم والصبغة الأوكسجين. أرى بقايا كحل وأرى غمازة شديد البيْن والغزَل. أرى تجاعيد كالخنادق وبهاقٌ جميلٌ وعرق جبين. أرى الأعمى، فلا يراني، وأرى في عيون الشباب الدموية، لفائف المخدرات. كل شيءٍ يبدو مُكبّراً أمام هذه الفتحة التي أسميها رأفةً بها : شبّاك صرف الدواء. إلا أنّها في الواقع فجوةٌ صغيرةٌ ثُقبت من زجاج الحائط. وفي كل مرّة حاولتُ فيها أن أغض الطرف عن التحديق في هذه العدسة، فشلت. لأنني بالطبيعة أميل للتفصيل والتدقيق والتركيز فيما وراء الحدث، لكن تجلب عليك تلك الفتحة أحياناً آلاماً أو حكايات لا تريد التورط بها. كالمرأة التي شهدتُ انهيار عينيها في شلالات مُفاجئة والتي بالمناسبة كتبتُ عنها في تدوينة سابقة . ودعوني أخبركم بكل سذاجة الحلم واحتقار الواقع، إنّ التورط هو التجربة القاسية ! ووجدتُ أنّ كل التواصل البصري بيني وبين عيون الآخرين هنا إما عزاءٌ لألم، أو طبطبةٌ لعجز الحيلة، أو طوبة أخر...

172: استحِ بربّك يا رجل!

لماذا يُصرّ الرجل المصريّ على تصدير صورته الحقيقيّة إلى العالم؟ لماذا لا يكتفي بما نُعانيه نحن من انعدام قدرته على السيطرة على شهواته ليُصدر للآخرين سذاجته وضيق فِكره! استحِ بربّك فالناس خارج هذي الديار يعدّونك أيّ شيء سوى الإنسان. لا أميل لتوبيخ الرجال رغم نسويّتي المعروفة، لكنني أتساءل بصدق لمَ يستلذّ رجال بلادنا في إخبار العالم أنّهم لم يتعلّموا في المدارس ما هي أساسيات الأدب وكيفية معاملة الأنثى بكل عنجهية فارغة! يمارسون وقاحتهم بكل سلام ورضا، بل ويجدون لكل تلك التراهات تبريراً. في عالم رجال بلادنا، دائماً ثمّة تبرير لا يدين إلا المرأة. ولن أعيد على مسامعكم خيط المبرراتية الذي ينسل خيطاً خيطاً لأنّكم مصريون وتعرفون جيّداً ما يُقال. ورغم محاولاتنا لستر هذا و" الرضا بقليلنا" حتى ينفخ الله في صورهم أصرّوا هم أن يكشفوا الستر عنهم ليقولوها بالفم العريض تحت بطانةٍ من النكات الجنسية والتجاوزات السافهة: نحنُ نحتقر النساء. إن لم تكن قادراً على مشاهدة الآخرين يمارسون حريتهم فقط لأنّك لا تستطيع الوصول لحرّيتك، فحريّ بكِ أن تلزم الهدوء وأن يعتريك خجل شديد، خجلٌ يجعلك تشاهد ما يح...

171: تمثالٌ من فراغ..

الوحدة أمرٌ مدهش. بل حزين. حزين ومدهش على حدٍّ سواء. ولا شكّ أنكَ عايشت أو تعايش أو ستعايش هذا الشعور لفترة من الزمن، وقد تختاره أحياناً بمحض إرادتك لا كامل رضاك؛ لأنّه يتقنّع بقناع الحلّ المريح، الذي يُخبّىء تحته وجهاً له ملامح أكثر واقعية وأقل سلاماً. هو لا يكذب لكنّه بالطبع يُراوغ.  وقد يختارك هو، فتُساق إليه على غفلة منك حتى تجد نفسك واقعاً فيه. أخافُ الوحدة. نعم. وتُثير في داخلي الرعب، ويحتار عقلي في كيفية دمجها بمسميّات أخرى لأموّه عنه وقع معناها، أعني أحياناً تكون: نُضج. مسؤوليةٌ جديدة يجب أن أتحمّلها. الدخول في تجربةٌ جديدة. النجاح في إتمام مصلحة حكومية. الظفر بكرسيّ واحدٍ بجانب شبّاك الطائرة ورحلة لا كلام فيها. الإعتراف بأن الحياة لا تقف على أحد. لكن عقلي طمأنني ذات مرة فوشوش لي: لستِ وحيدة، أنتِ فقط بمفردك. وصدقته. أنا. هذه المَفردة الغريبة، التي تَمثّل ذات الإنسان، تُمثّلني. مجنونة اللغة، فقد قررت أن ألِفان يتوسطهما نون هو تعبير دقيق عن النفس، عن كل ما تحمله من ذنوب وتوبة، عن كل ما تحمله من أفكار متمردة وانتماءات جنونية، عن كل من أحبّت وكل من عشقت وكل من حاولت ص...

170: يمامة بِيضا..

- ألو.. مرحباً.. أيبدو صوتي واضحاً؟ ألو.. - ألو ألو، نعم ألو، واضح وزي الفلّ، ألو.. كان نِفسي آخد الحريّة اللي بتمنّاها، الحريّة اللي تخليني عايشة من غير ما أحارب الضيق والحزن كلّ يوم كإنّي بحارب يأجوج ومأجوج لوحدي. أعظم حاجة افتقدناها من ٨ سنين وداخلين في التاسعة هي الحرمان من بعد نعمة، كإنّك بتدوق المحشي للمرة الأولى في حياتك وبتدرك قد إيه هو شيء أيقوني بس تاني يوم بيحطوا قدامك عيش حافّ، وساعات بعد كرم يحطّولك معاه طماطم.  دوقنا النعمة، لمسناها على طراطيف لساننا، وفكرنا إنّ الخطوة الجاية إننا نستطعمها لفترة أطول، وأنّها هتكون موجودة في المطبخ طول الوقت، بس فكّرنا غلط. وده كان أقسى درس في التاريخ، على الأقل التاريخ اللي في مخيلتي. - هاه، ما الأحوال؟ - أنتَ كيف الأحوال؟ أنا الحمدلله. - هل ستغادرين قريباً؟ - أتمنّى، لكن إلى أين؟ وكيف؟ - إلى عندي. وكيف؟ همم.. بقدميكِ الطويلتين؟ - كفاكَ مزاحاً. - أنا لا أمزح للضحك، أنا أمزح بالرسائل المبطّنة التي أجبن على التصريح بها. دعكِ من كل هذا وتعالي. في كل مرحلة كنت بقنع نفسي فيها إنّنا لسا قادرين على السيطرة، كنت باخد على دماغي...

169: معقول إنساك معقول؟!

أحياناً يصيبني شوق عظيم لصوت فضل شاكر، تلهّفٌ حقيقيّ كظمآن يبحث عن رشفة ماء باردة في اللحظة التالية لـ " الله أكبر الله أكبر"، فأركض لأدفّئ دواخلي برقّة أحباله الصوتية التي واللهِ تدقّ على آلة نشوتي كأنّها أنامل عوّاد.  ولا يجلب صوت شاكر الحزن ولا يجلب الفرح، إلا أنّه صوتُ تحقق أمنية أو التقاء شفتان متلهّفتان، هو صوتٌ يشبه الحالة لا المسمّيات، وهذا ما يجعلني في كل مرّة ألجأُ فيها لصوت فضل أخرج هائمة حالمة على وجهي، لا أعرف بدقّة ما هو حالي، لكنّني في حال. " معقول إنساك معقول؟ " يقولها كأنّه عصفور ناعمٌ له ريشٌ حريريّ يحطّ على رأس معدتي ليزيل عنها القلق والأرق واندفاع الأدرينالين، ورغم ما تطويه الجملة من تساؤل استنكاريّ ما يلبث إلا ويهدأ أرقه إلا أنني أجد نفسي أقول: " مش معقول ". أنا أعرف نفسي، أنساك؟ فعلاً أمرٌ غير معقول. يُهيّئ لي لو أن وثائقياً قد يدمج مراحل حياة فضل العمرية التي تعدّ سلسلة مثية للإهتمام على أقلّ تقدير، سيُعرفنا الدوافع التي حركّته والمآخذ التي أبعدته والأحلام التي أرجعته. سيكون وثائقياً هائلاً. ولم أكن أنتوي الكتابة عن فضل بعينه،...

168: من الجرف العالي

أنا أعلم تمام العلم ما يحدث هنا، أعني بين روحين كروحيْنا، أعلم أننا غير مُقدرين لبعضنا، لكننا نؤجل اللحظة القاسية، نؤجلها بكامل قوتنا كأننا ندفع شاحنة باتجاه جرف عالٍ بكلتا يديْنا الهشّتين، سنُسقط الشاحنة في لحظة ما لكن بعد أن تُستنزف أرواحنا لآخر قطرة فيها. لم أكن أملك زمام أموري جيّداً، في الوقت الذي طرقت فيه شبّاك الدار لأنّك تخاف الأبواب، لم أكن أملكها وكان كياني مهتزاً، ولا أتذكرُ تحديداً كيف انتهى بيَ الحال لكل هذا الإرتباك لأنّ الحياة قبلك لم تعد تأخذ حيّزاً من الذاكرة. أمّا الحياة بكَ فأخذتْ كل حيّز ممكن حتى مللتُ أن تزورني الذكريات، وانشغلتُ في أمور أحبها ولا أحبّها حتى أضيّق على الذكريات زيارتها. نعم، أنا أقصد ذلك تماماً. ماما، لم تعد تحتمل وجومي، ترى ما ترى في عينيّ فتحاول، إلا أن وجومي بات ملمحاً من ملامح وجهي، تيهٌ بيّن كتبيّن النهار والليل. لا يهم أين أخرج، ولا مع من، ولا إلى أين، ولا كيف ومتى وبينما، المهم أنّ ملامح وجهي تظلّ طاتها، وجوم وتيه وفقط. ماذا تظنّ بنا فاعلين يا قدري المستحيل؟ كيف سننجو بقلوبنا للضفة الثانية ، وإن نجت قلوبنا ستنجو منفردة، كل قلبٍ في دار،...

167: وهذا كل ما في الأمر

أعتقد أنني اليوم غير قادرة تماماً على الكتابة، لا لاستغراقي في النوم ولا لانعدام الفكرة، لكنّه شعور بالفتور، رغبة في عدم الضغط على الحروف ولا تكوين جمل ولا حتى صناعة فكرة. إلا أنّ التحدي سُميّ تحديّاً لإنّه عادةً ما يزدهر بشكله الحقيقي في الأيام الشبيهة باليوم. هذه الأيام التي تستعصى فيها الجملة على أن تكتب نفسها بنفسها، وأحياناً أفكّر؛ ما الذي صنعته يداي؟! لم أفكّر كثيراً في الأيام الثقال ولا الأيام العجاف ولا الأيام التي يخفت فيها وهج الشغف، اتبعتُ حدسي الذي ساقني نحو الكتابة، ورغبتُ لأنْ يكون لنفسي مخزونٌ يوميّ، ونسٌ أعود إليه ليلاً لنتسامر ونتسلّى سويّاً، سنتشارك الدموع والإرهاق وحتى لحظات النشوة السريعة. لم أفكّر في أنّ ثلاثمئة وخمسة وستون يوماً رقمٌ هائلٌ وضخم كالمدى، تراه خطاً يفصل السما والأرض لكنّه مساحة شاسعة تترامى فيها أطراف الدنيا. هذه أياميَ كما تبدو، ورغم أن المدونة ليست مجموعة مذكّرات، لكنّها تأتلفُ طبعي وحياتي فينفلت منها بعض مذكرّات شخصية، وهذا اليومُ كما يبدو واحدٌ منهم، لأنّني غير قادرة على الكتابة، وهذا كلّ ما في الأمر.  - 167/365

166: قلبي دليلي

إنتَ في رحلة لشرح نفسك طول الوقت، إنتَ يا اللي قلبك كان دليلك لكل البشر، بقيت حاسس إن الدليل محتاج دليل على الدليل لأجل توصل للناس ويفهموك وتفهمهم. في حلقة مفقودة في النصّ ما بينك وبينهم زي ما تكون مفوّت الحلقة عشرين من مسلسلك، ومحدش يفكّر ليه الحلقة العشرين تحديداً لإنّ مفيش أي سبب غير إنّها غالباً بتكون بداية ظهور الحقايق وانكشاف الستاير والبلاوي. ومش عارفة هل من النضج إنك تسلّم أمرك بهدوء، وبدون خوض نقاشات حادة وكتيرة ومتكررة، ولا هلّ من اليأس وانعدام الرغبة في الحياة؟ مش عارفة. لكنّي حابّة أعتبرها نُضج مُطعّم بسِنّة يأس صغيرة، على تنتوفة انعدام حياة. كل حاجة بقيت بعملها، وممكن أقول بقينا بنعملها هي نتاج مجموعة أجوبة، مش أبيض وإسود ومش يا يأس يا نضج. كل حاجة بقى فيها احتمالات، وزوايا مكسوفة تبان فبتاخد جمب كده لكنّك بتلجألها كتير، كل حاجة بقت تحتمل أكتر من شكل وأكتر من لون وأكتر من عنوان. زمان، كنت بقرأ طول الوقت حكَم لابسة بدل ومحطوطلها غاية ودافع، مكتوبة بكل ثقة وإتقان كإنّك بتحطّ شوية أسمنت في قالب عشان يطلع طوبة مثالية الصنع. وكنت بقتنع بالتكوين ده، هو ده الكلام اللي لازم ي...

165: زووم..

وجدتُ سرّ التيه. أو هكذا أظنّ. اليوم، في طريقي إلى دمياط القديمة، مررتُ على موقف للميكروباصات في منطقة السنانية، الزحام كان خانقاً وأكثر من المعتاد، الطلبة يندفعون من الكورسات باتجاه المواصلات، النساء يزاحمن الرجال، والموتيسكلات تستقوى على السيارات، والهواء بذاته مختنق ويسعى لمنفذ لكي يتنفس. وفي خضمّ كلّ هذا، رأيت " تاندة " بعيدة جداً (وهي مظلّة توضع على الشُرَف الكبيرة لتمنع عنها الشمس وماء المطر) وبرغم البعد كانت تفاصيلها واضحة وبيّنةً كأنّها قِبالة عيني تماماً وليست على بعد عشرات المترات في الدور الرابع! تفاصيلها كانت عريضة وبسيطة لا فلسفة فيها ولا مميزات. كانت واسعة الملامح، ورقتين خضراوتين كورق الزرع وبينهما بضع بتلات وردة ناعمة. كأنّ مصوراً قد قرّب الصورة كثيراً حتى ركّزت العدسة كامل قوّتها على جزء منها وأهملت الباقي. ماذا سيحدث لو صغّر المصوَر المشهد، ضيّق الزوايا وأعاد بأصابعه الكادر في مستواه العادي؟ سأحكي لكم حكاية سريعة. لا طالما آمنتُ أنني جزء من خطة، خيطٌ في لعبة ماريونت، أو لعبة الماريونت بشخصها، لا طالما آمنت بالسببية في الأحداث، وبـ "كل شيءٍ خلقناه...

164: ماذا يحدث في العالم اليوم؟!

هاه، ماذا يحدث في العالم اليوم؟ أبهرني يا أيها العالم المسعور. لن أفتح الجرائد بالطبع، نحنُ جاوزنا الألفية الثانية بما يقرب العشرين عاماً، لا أحد يُمسك الجرائد الآن، إلّا أربعة يجلسون على القهوة في الصباح وجدّي على كنبته القديمة التي تقع تحت شبّاك الصالة الصغير. الأمرُ أصبح نادراً للحدّ الذي جعل الجرائد ورقاً لتغليف الهدايا وأحياناً ورقَ حائط، لكنّه لم يعد وسيلة لنقل أخبار أحد ولا منصّة لمخاطبة الشعب. سأفتح التلفاز على قناة فضائية ستنقل لي الأحداث بمحايدة أو على الأقلّ بموضوعية تخاطب العقل البشري لا صامولةً في مكنة جزّ العشب أو حمل الروث. على أية قناة أفتح يا ترى؟ همم سأغلق التلفاز. مهاترات ونميمة وحوارات تافهة، لألجأ لمسطبة دار جدتي أفضل. لن أجد في الراديو سوى حكايات علاها الغبار كمجلدات الحكومة، أصواتٌ منهكة، بإمكاني أن أعبر لوجوههم من خلالها، فأرى جفون متهدلة وعيون دموية وبشرة باهتة. ماذا سأجد في الراديو؟ أغانٍ أحبّها؟ ربّما، وتأخذني لثوانٍ لعالم بعيد في الماضي، كانت فيه كل الأمور - كعادة الماضي- أفضل. سأفتح مواقع التواصل الإجتماعي فأجدُ لتونس رئيساً مُنتخباً - بحقّ وحقيق م...

163: كأنّك وصلت..

أتعجّب حقيقةً لمَ تبدو نجاحات أصداقئنا وأفراد عائلاتنا وأحباؤنا جزءٌ أصيل من نجاحاتنا الشخصية، كأنها انبعاثاتٌ دوريّة من لحظاتنا الشخصية للوصول، أو تفرّعاتٌ جانبية من طريقنا الذي نمشيه. إحساس منفلتٌ منك كأنّه لك وكأنّه خاصتك. وأتساؤل كيف لأناس أن ينظروا بعين كارهة لأحدٍ وصل، واستحقّ فعلاً وصوله. كيف تطاوعهم أفئدتهم ألّا يشعروا بالسعادة ويتشاركوا معه المشهد والحالة والإحساس. كيف؟! كيف لهم ألا يجلسوا على أطراف الصورة فقط ليصفّقوا له؟! لكنْ، لا يهمّ، هؤلاء غير مهمّين على الإطلاق، المهم طاقة الحبّ التي تتفجّر في لحظاتِ النجاح كما تتفجر في لحظات الحزن، وفجأة تُبصر الأمل، يتراءى لكَ نوراً يسير باتجاهك أو يجذبك باتجاهه، لا يهم من يسير باتجاه من المهم أنكما تتحركان لبعضكما البعض.  لعبةٌ بسيطة بين الأولويات، المهم فالأهم، واللايهم، في لحظة النجاح ستتشارك دنياك مع الأهم، لن تُبالي لمن يستنكر لحظتك، لن تلتفت حولك لمن يستصغر حجم ما وصلت إليه، لن تسمع فعلاً صوت أحدٍ ممن ضحكوا عليك أو أتعبوك فتعبت، لن تجد لحظة في خضمّ النجاح لهؤلاء، لأنّك ستكون مُحاطاً من داخلك بمن كانوا هنا لأجلك، من م...

162: التأريخ في عدسة..

بالنظرة المليّة لفنّ الشارع، للصور التي تتداولها الصفحات عبر الإنترنت أو حتى تلك التي تغازل عدسات كاميراتنا لإلتفاطها، نجدُ أنّها جميعها تشترك في صفة واحدة، العشوائية. هل تخلو صورة واحدة تعرفها من كتابة على الحائط، جرافيتي مرسوم، زحمة في الشارع أو تكدّس في السيارات خانق، عمارات متهالكة ومثقلة بالتراب والزمان، الأناس أنفسهم يعلوهم التراب؟! هل تخلو صورة من الملابس الرثّة والملابس الماركة، من مشهد خاطف لميكروباص أو حتى نظرة عنيدة من قطّة لونها غدا رمادياً من عوادم السيارات وركل المشاة؟! هل ترى صورةً دون أن تلحظ التيه في العيون، أي عيون في الكادر، سواء كان التركيز عليها أو كانت عيون مهَمشة في الخلفية، سترى من خلالها التيه والهم وانقسام الظهر. هل تخلو صورة من " الإيشارب" والموبايلات المدسوسة تحتها؟! هذه هي صور هذا الزمان، سترى فيها ما يجعلها تتميز بكل أنواع العشوائية وسيتشارك ملتقطوها في ذات النظرة مهما اختلفت كادراتها. أحبّ أن أتخيّل أن كل الصور التي تتقلب الآن أمامك في الفيسبوك وتويتر وإنستاجرام هي التاريخ، هي الصورة التي تعبر بالإنسان مستقبلاً إلى الماضي بشكله وهيئته، فيعل...

161: مرحباً بكَ في عالم الكبار

أودّ من كامل كامل كامل فؤادي، لو استيقظتُ صباح غدٍ طفلة. مُجرد طفلة سعيدة لا بال لها سوى اللعب ولا هاجس لها سوى امتحان الإملاء والخوف من الخلط بين التاء المربوطة والمفتوحة. أودّ بكل طاقتي أن أعود للامبالاة واعتياد العالم المتكرر واليوم السبيستونيّ الدافىء، أودّ لو أغمض عيناي فتلعب الفيزياء لعبة مجنونة خارج حدود الحسابات والمنطق والكمّ وتعيدني للوراء، عندما كان البيت مأمناً حقيقيّاً وملاذاً وحيداً أوحداً لا شريك له. ألا تشعر أحياناً بالحنين يجتاح فؤادك عندما ترى طفلاً يجلس على شباك السيارة، شعره يتنفس الهواء وضحكته تُلعلع في السماء، يُرسل تحيّاتٍ عشوائية للسيارات التي خلفه أو أمامه، في قلبه كل شيء عدا الخوف، في قلبه البهجة والجنون والمغامرة، حيث لا مكان للتردد أو التراجع. ألا تشعر بالحنين عندما ترى طفلاً يُجرّ في عربته، يلجأ للبكاء كلما أراد شيئاً أو آلمه شيء أو أعجزه شيء. ألا تشعر بالحنين لتلك الأيام التي كنتَ فيها طفلاً قادراً على التحدث عن ما يحدث حولك أو ما يحدث بداخلك، عن الرغبات في إكمال هذه اللعبة أو الذهاب لملاهٍ بعينها دون أخرى، عن اللارغبة في حضور الدرس أو الذهاب إلى النادي...

160: عدسةٌ مكبّرة

يجبّ عليّ أنْ أتعلّم التدوين خلال اليوم، لأنّ أياماً طويلةً ومكتظة كاليوم، قد تُنسى، تحديداً إذا عايشتها أنا، امرأةٌ بذاكرة سمكة. الإبصار فيما هو أبعد من الشكل السطحي للأشياء، يجعلك ترى الصورة أجمل، أو على الأقل أكثر صدقاً وأقل تكلفة. يمكنك مثلاً أن تنظر في عيني البطّة المستكينة في " النقّالة" * منتظرةً نصيبها الذي سيأتي ليدفع مهرها ويعود بها إلى بيتها، أو مثلاً أن تتأمل الفاكهة الطازجة التي تعاكسك قائلة: طازة يا بيه، طازة يا أبلة. الإمتزاج المُسالم للكناتٍ مختلفة، ما بين السوريّ والمصريّ والبدوي، أو ما نقول عنه عرباويّ، وهي لكنة مصرية لكنْ لها وقع سمعيّ مختلف، يتميّز بها البدو إن جاز تسميتهم كذلك، الذين يتخذون من الفدادين الواسعة المتروكة لفترات أرضاً لهم، فيرعون فيها أغنامهم ويشيّدون فيها خيامهم بوضع اليدّ لا بامتلاك الأرض. اقترابنا من الأرض، اقترابنا من البساطة التي تكاد تلامس الفقر، اقترابنا من الإبتسامة التي تتقنّع خلف المعاناة والمهدئات، هو اقترابنا لروح الإنسان، لأنّ روح الإنسان لا تقبل القِسمة على الراحة، هي روحٌ لا تعرف سوى الكَبد المُكبّد. لكن، يُحاول الجميع، ...

159: " اوعى تنام يا يحيى"

إنّ الأيام التي تُطوى في النوم العميق، أكثر الأيام مُسالمةً، حتى وإن تعكّر صفوها بأحلام مزعجة، فلن تكون أكثر إزعاجاً من الواقع!  " اوعى تنام يا يحيى"، تخيل! أن تُحرم من أسهل وأرخص وأعظم وسيلة هروب في العالم، هل هناك عذابٌ أكثر صعوبة؟ أتذكّر أنني شاهدتُ فيلماً أجنبياً، على ما أتذكّر كان يندرج تحت قائمة أفلام الرعب، كلما أغمضت البطلة عينيها ظهر لها ما تهرب منه، وحدثت أشياء مروعة. فمنعت نفسها من النوم، أصبحت تشرب زجاجات من القهوة، تضرب رأسها في الحائط، تحقن نفسها بمواد طبية تساعدها على الإستيقاظ، المهم، ألّا تنام.  عندما تأتي أيام الأرق، أصاب بالجنون، ويضيق بي صدري كأنني أقف في عزاء، تتطور حالة القلق على العائلة والأحباب حتى ترسم لي خيالات قاسية وأوهام ساذجة، وأحياناً أفقد السيطرة فأرفع سماعة الهاتف على هذا أو ذاك في تمام السادسة صباحاً لأسأل سؤالاً مُختلقاً فقط لأطمئن، وأحياناً في الثانية بعد منتصف الليل، أتصل لأبكي. الواقع مُقلق للحدّ الذي جعل حُلمي اليوم قلقاً كذلك، أعني لمَ يأتي في حلمي سائق أوبر يحاول لمسي بعد أن انحرف في مسار مختلف! كلها مخاوف واقعية ترتكز في ...

158: جزءٌ من كُلّ..

في الأيام الجميلة التي لجلالها يجب أن تتعلم متى تضبط البكاء، وتنحسر بنفسك بضع كيلومترات للوراء، تذكرةٌ دائمةٌ بأنّك لست المسرح، أنتَ السيتار، قطعة ديكور، لمبة إضاءة، ميكروفون معلق، أنتَ جزء، ولست الكلّ. وككل مرّة تصدمكَ فكرة أو تذكرة ما، تعيد بنفسك ذاكرتك عن نفسك، وترتّب المداخل والمخارج والقطع المبعثرة كأنّك ترصّ قطع الميكانو بجانب بعضها البعض. فتجد نتاجاً جميلاً حتى وإن بدا بعيداً تماماً عن التصوَر النهائي. في كل مرة تفكّر فيها في نفسك، تُفاجئك مسابير جديدة، مغارات مهجورة ومسالك لم تُسلك من قبل. نعم، هذه قدمك وهذه نفسك، وكلتاهما تتعرفان على الطريق إلى بعضهما. ثمّة دموعٌ تنتظر، على حافّة الهفوة، على حافّة طرفة الهواء القادمة باتجاهك، على حافّة لفحة ذكريات هائمة. ثمّة دموع تنتظر، لإنّها لم تصل يوماً، ولم يُسمح لها بمقابلة اللحظة، فظلّت على حالها حتّى بردت وهدأت وراح جمالها واعتلاها عجزٌ غريب.  البحر، تحديداً في الليل، يُجرّح قرح الدموع بنفسه، ويجعلك تهيم على وجهك في خضمّ جلسة ونس وضحك وأغانٍ، حتى وإن تعالت صوت ضحكتك، وصوت ضحكات الجميع، فأنتَ تعلم في قرارة نفسك أن للبحر هيبته...

157: بالعاميّة: النهاية المؤجلة

أنا فتحت باب البلكونة، وقلت أكتب. بس حسيت البلكونة بتقوللي، شكله مفيش كتابة النهاردة يا ستّ أسما، فقعدت وسندت راسي على حديد البلكونة وبصيت للقمر، عشان بحبّ أبصلّه وعشان جميل، ولقيته أحمر وبيمشي، مش قصدي بيمشي زي ما كان بيعمل معانا وإحنا راكبين العربية وإحنا صغيرين، بس بيستخبّى ورا البيت اللي قصادنا، حسيت إنّ الدنيا لسا ياما فيها كلام، وإنّ قلبي، يمكن يبان خفيف بس هو على ميزان الحواديت، تقيل. المهم، بيبقى للإنسان حدّ، خطّ نهاية، بيخاف يوصلّه، وبيعيش حياته يأخر وصوله، لحظة كده عارف إنّ عندها كل حاجة ممكن ترجع للصفر، أو لما وراء الصفر، لسالب قلبه، كإن شريط حياته بيرجع بالمقلوب في مشهد ملحمي، بحيث هيشوف البداية من جديد بس بعد ما يكون وصل النهاية وفقد حلاوة الرحلة. بيقولوا إنّ خطّ النهاية لما يبعد بيكون عشان خايفينه يوصلّنا، أو بمعنى أدقّ خايفين إحنا اللي نوصله، مع إن خطّ النهاية مرسوم وباين، لكن بنحبّ نتهيّىء إنّه بعيد، وسخيف ومستحيل. زي النجوم اللي بنشوفها كل يوم، هي أصلاً منتهية، هي أصلاً خلصت من سنين، بس وإحنا مبهورين بنورها وجمالها بنخاف نصدّق إنها -والله العظيم- ما بقت موجودة. ...

156: الكلمة،تاريخ: "بعلم الوصول"

وبعد انقطاع، عُدت للقراءة، أو عادت لي. وكان لكتاب "بعلم الوصول" لأحمد خير الدين النصيب في ذلك، ولحسن الحظّ كان اختياراً خفيفاً ورائقاً ولذيذاً.  الكتاب مجهود إعداد وبحث ومحبّة من القلب، وليس كتاباً يعتمد على أفكار الكاتب أو مهاراته الشخصية. وشعرت من خلال الكتاب أنني أجلس في غرفة الجلوس، أمامي جوابات مبعثرة وكثيرة على الطاولة، بيدي كوبٌ زجاجيّ من الشاي، أسند رأسي إلى كفّي متأمّلة في كل هذا التاريخ الذي بين يديّ. وقد تتعرّف من خلال الكتاب على الكثير من تاريخ كل فترة من الفترات التي مرّت على مصر، ستشعر أنك متورطٌ في أحداثٍ تاريخية ومعلوماتٍ سياسية ومشاهد رومانسية بين حبيبين، وقد تحرقك نار شوق لاذعة بين زوجين تُفرّقهما الغربة الباردة. ستمتلك مشاعراً مكتظة تحيطك من كل الزوايا والأمكنة، وسوف لن تكون وحيداً، لأنّك ستكون ككاميرا المراقبة، شاهداً على ما يحدث هنا وهناك وما بين ذلك. مدى حبّي للرسائل لا ينكمش ولا يتقلّص، وقد وجدت في ما صنعه أحمد خير الدين شيئاً يُشبهني، ويُشبه ما أحبّ للنتاجِ أن يكون عليه؛ كتابٌ سلسٌ من الناس، يشبههم تماماً، يحكيهم من خلالهم للناس، ميراثٌ تاريخي...

155: مصدر النور والنار: شبّاك صغير

مربعٌ صغير، كأنّه منفذ فأر لكن على مستوى تكبير مُضاعف عشر مرات، يُمكّنك من العبور بعينيكَ حول الساحة التي أمامك، فترى جانباً من شباك التذاكر وجانباً من مدخل عيادات المركز وجانباً من السلم الصغير الذي يأخذك إلى مكتب المدير. في كل صباح وحتى منتصف الظهيرة، تحمل تلك الساحة كل أصناف الأسى، على الأغلب لا يلجأُ للمشافي الحكومية إلّا الذّين لا يملكون بُداً من الحكومة، أو الذين أخذتهم طارئة للذهاب لها دون غيرها لإنها قريبةٌ ولا مجال للإبتعاد، وهذا ما يجعل الصورة بائسة عبر هذا الشبّاك كل صباح، لإنّك تعلم أن من تراهم وتُعاملهم بشكلٍ يوميّ، مُثقلون، بل متشبّعون باللاحيلة حتى الثمالة.  هذا المربّع عزيزي القارىء، وإن لم تكن يوماً قد مررت بأيّ مشفى حكوميّ سواء كنت فيه موظّفاً أو مريضاً أو زائراً، فهو أمر شديد الغرائبية على خيالك، لكن دعني أحاول، دعني أتقدم خطوتين إلى الأمام فافتح لي الباب رجاءً.  هذا المرّبع شباكٌ، حلقة وصلٍ ما بين جبهتين،  ما خلف المنفذ، صيدلية تعجّ بالأدوية، كراتينٌ مُكدسّة كهمّ الناس، علب أدوية مفرّغة في علبٍ أخرى أصغر بحجم راحة اليدّ، لتُسهَل على الصيدلانيّ صرف...

154: في الحياة، ميلادان.

وإنّي أحبّك كاملاً مهما كان نقصك، وإنّي أحبّ نقصك حتّى الكمال، وإنّك كاملٌ ما دمت لي، وإنْ لم تدم لي، فلا كاملٌ إلا الذي سوّاك. والحبّ لا يعرف الرحمة، ولا يبعثُ على النجاة، ولا يُسرّ بحزنه لأحد، ويحب أن يُشارك سعادته مع حويصات الأرض حتى أجنحة الطير. هو انقباضةٌ في كامل الجسد تنبع من المنتصف كأنّها نقطة التكوين أو مكمن الولادة وهو أبعد ما يكون عن كليهما، لكنّه يُنسيك ما لم يكن منه فتكاد تنسى كل ما عايشته قبله وتحفظ عن ظهر قلب كل ما عايشته به، وسيورّطك في شعورٍ غريب، كأنّ لميلادك يومان، يومٌ بكيت فيه بكاءَك الأول مقلوباً رأساً على عقب ويومٌ انبثق فيه فؤادك فراشةً من شرنقة حزنه ومخاوفه ووحدته. هذا الشعور الجميل الذي يجعل صوصوة الأغاني في الكرسي الأخير من الميكروباص مشاركة ودودة وليست اقتحاماً للخصوصية، وملعقة السكر التي نُسيت من كوب الشاي الذي تحبّه فرصةً للريچيم وليست معاندةً من الدنيا، و المسمار المتخفّي في طرف الباب الذي نزع عنك سترتك المُفضًلة ليس إلّا فرصة لتزور الخياط الذي تحبّ التسامر معه فيضيف له وروداً وأغصاناً فيعود جديداً كأنّه ابن اليوم. هكذا فجأةً، تغدو الحياة صحناً كبير...

153: غداً، تدوينة أفضل

الأمرُ أصبح مُثيراً للضحك! فكل ليلة أفتح فيها صفحة جديدة لإنشاء تدوينتي اليومية، أستيقظ فجأة من اللاوعي، لأكتشف أن قد غافلني النوم وأنني بالفعل في اليوم التالي! وبتّ أشعر أنّ أيامي تسيح في بعضها البعض، تذوب ملامحها وتوقيتاتها، وكأنّها هلامية التكوين، رغم كل ما يحدث فيها ورغم طولها إلا أنّها غير متماسكة. أو هكذا تبدو. هذه التدوينة التي لن يُكتب لها بقيّة على الأغلب تأخرت كثيراً للحد الذي جعلها تفقد رونقها. يحب أن أعيد ترتيب الوقت ليتناسب معي، حتى لا تنفلت التدوينات وتأبى أن تعود أبداً. - 153/365

152: لا أُشفى من الأمل..

في شعوري بالإمتنان اليوم، طاقة حبّ يمكن لها أن تكفي العالم. ولا أعرف هل لأنّ النور انبثق من قلبي أم لأنّ الظلام انقشع فبدا واضحاً مُسالماً بمفرده. ولا كثير تغيّر، تماماً ككل الأمور التي تركتها في أماكنها منذ شهور حتى اندمجت بمحيطها فباتت لا تُلحظ، لكن قلبي، به قفزات صغيرة وساذجة، تُشبه الأمل. عادةً ما أتفاؤل بالبدايات، أشعر أنها نكزةٌ باتجاه الأمام، وفي كل مرة أكون بهذه السذاجة لأثق فيها. أريدُ أن أصدّق الأمل، أريدُ أن أثق في البداية، في السعادة التي تزورني في خضمّ لحظة ما، إلا أنّ البدايات ككل عيد ميلاد ورأس سنة، حالة من غزل البنات، متى ما لامست اللسان حتى تؤول إلى اللاشيء وأحياناً تترك مذاقاً جميلاً دون أثر. في الثاني من أكتوبر لهذا العام، عايشتُ واحداً من أجمل ذكرى أيام ميلادي، وللمعجزة، كان اليوم مثالياً للدرجة التي جعلتني أتساؤل وأنا أسند رأسي لظهر السرير مودعةً أحلامي ل" الدريم كاتشر " التي تلقط أحلامي متى هربن من مخيلتي، هل يحدثُ أن يُعايش الإنسان يوماً مثالياً بالفعل ولو لمرة واحدة في حياته؟ لإنني عايشته اليوم. ويمكن لك عزيزي أن تُدرك ندرة تلك الأيام لكاتبة هذ...

151: خمسة وعشرون شمعة.

يقولون أنني أتممت عامي الخامس والعشرين، أما أنا فأنظر للشمعة التي تتوسط كعكة عيد الميلاد، فيصيبني ذهول عجيب. ما زلت أتذكّر كيف كنتُ أنظر لهذا الرقم عندما كنت أربط الضفائر وأجول الشوارع كالباعة الجائلين، ما زلت أتذكّر كم كان الرقم ضخماً وبعيداً، إنّه رقم " الكبار"، ثمّ ها أنا ذا، أصبحت " الكبار". أكاد أجزم أننا سنتشارك أنا وأنت يا من تقرأُ هذه السطور الآن الشعور ذاته، وهو أننا لا نصل في الوقت الذي نعتقد فيه سذاجةً بأنه سيكون ميعاد الوصول، سيكون الوقت الذي وصلنا فيه مجرد ترانزيت، ميعاد يتوسط الإنطلاق والوصول، ميعاد ليس شبيهاً بما ظنناه ولكنّه كذلك ليس مختلفاً تماماً. في وعيي الصغير كنت أجد في الخامسة والعشرين تتويجُ المساعي، أعني كنت أرى أنني في وقتها سأكون دكتورة، عندي طفلان، زوجٌ رهيب خارق القوى، أعيشُ في شقتنا الرائعة. كان العالم المثاليّ ذاك متمثّل في السنين الخمسة والعشرين. ثمّ، ككل الأشياء، حدث أن تصادم الوعيي الطفوليّ هذا بسرعة الحياة وتغيير الواقع، وشهدتُ على مرحلة انتقالية للعالم تحوّل فيها من الورقيّ السلكيّ للإفتراضيّ الوهمي. وبدت الأحلام الصغيرة قابلة ل...

150: أيام الحرب، والسلام..

يمكن لأيام أن تمرّنا كرياحٍ فارغة، وأيام كساحة حرب مستعرة فيها كلٌّ مُنشغلٌ بزاوية. فاليوم مثلاً كان مكتظّاً كساحة المسجد في ظهر يوم الجمعة، لكن كانت له لحظاته، كانت له لقطاته. وعلى عكس أيامي الهادئة الملازمة للمخدة والسرير، أحتاج أحياناً لهذه الأيام، التي تُسلم فيها المواعيد بعضها البعض، ويتناوب فيها كوب الشاي وفنجان القهوة على كفّي. أحتاجُ أحياناً لهذا الزخم، نوعية الضوضاء التي تشبه لغة غير مفهومة في بلاد تزورها للمرة الأولى. لكن وراء كل هذا الزخم، والمواعيد، الضحكات العالية والصدامات، سعادةٌ غريبة، أو هكذا أأمل. لماذا يسير العمرُ بنا بهذه السرعة والبطء معاً، تمرُ أيام تصيبني بالغثيان، كأنّها أسفلت أسود يُصفّ ببطء وثقل على قلبي، وتمرّ أيام على الروح كأنها عبقٌ ملائكي، طرفة جناح، لا تُدرك متى بدأت ولا كيف انتهت ولا لمَ انقضى معها الوقت. أدركتُ هذا وأنا أنظر للشمعة التي تتوسط الكعكة، لمن هذا الرقم بربّكم! أنا؟! شكراً، لكل الأيام التي حملت الودّ والكره، الخفة والثقل،الحرب والسلام، الزخم والبلادة، الركض والهرولة، شكراً لكل ما حدث، لأن لا شيء جعلني أنا سوى كل ما حدث. - 150/...